الجازية الهلالية: قصة عربية في ذاكرة أمازيغية

                       محمد أمين برجة

    لكل امرئٍ ذكريات راسخة في أعماق روحه ومنبسطة في غياهب وجدانه، ولا يكاد يجد لنفسه خلوة إلا استرجع
. رسومها، متأسفا على انقضائها، ملتمسا رجوعها

   ولا شك في أن تلك التي تتركها أيام الطفولة هي الأكثر شوقا وحنينا. سنوات عديدة مرّت، وأنا لا أزال أذكر الصغيرة قبل الكبيرة من فجر حياتي، وقد أبالغ إن قلت أذكرها، فكيف أذكرها إن كنت لا أنساها! فطفولتي مليئة بصور كلها من بلاد الشاوية، بلغتها، ثقافتها، تضاريسها بل وحتى هوائها. بلاد الشاوية، بلاد النيف والحرمة، بلاد رجال الشدة والأزمة، سموا شاوية لحسن قيامهم على الشاة والبقر، أمازيغيِّي اللسان، شاويِّي اللهجة، متمسكين بعادات آبائهم وأسلافهم، يعيشون على أرض سقيت بدماء رجالاتها لتنبت مغاوير لا تقل شأنا ولا همة عمن سبقهم. فكل نساء
. العالم تلد رجالا إلا أرحام الشاوية تلد أبطالا

    ومن المتناقضات التي تركت بصمتها في حياتي أني انتقلت من بيئة قروية إلى عاصمة  مدنية غارقة في جدليات مفاهيم الفكر وحقوق الانسان، لأصطدم بحركات وتيارات تنادي بحرية المرأة! أولم تتحرر عندهم المرأة بعد؟! صعدت في الخريطة 600 كلم ليرجعني التاريخ سنين إلى الوراء! فالمرأة عندنا منذ الأزل سيدة في قومها، ملكة في عشيرتها. لن أذكر الكاهنة قائدة الأمازيغ ولا حكايات قد أكل الدهر عليها وشرب، وإنما سأكتفي بما هو حاضر وما هو معاش، فالرجل عندنا ينسب إلى أمه، لا إلى أبيه، فأنا وأبناء عمومتي نُنسب إلى جدتي عائشة، فيقال “هذا من رباعة عيشة بنت الحمرة ” بمعنى « هذا من سلالة عائشة التي تُنسب بدورها إلى أمها الحمرةʺ. وعلى ذكر جدتي ذات الثلاثة والتسعين حولا، المزدان وجهها بعلامات وأشكال أمازيغية، أتذكر ليال كانت تطربنا بأشعارها وتدلي علينا بحكاياتها. ولعل أبرز ما قصته على أسماعنا، حكاية « الجازية الهلالية »، حيث كانت تحكي لنا تفاصيل أخبارها وبطولاتها وصرامة شخصيتها، قصة توارثتها عن أجدادها لتمررها إلينا، وظلت تصفها لنا بأنها مثال في مشاركة المرأة في صناعة القرار. فالقصة حقيقية، البطلة عربية والراوية أمازيغية، ولم أضف على روايتها إلا بعض التوضيحات التي التمستها من بعض كتب التاريخ، وتعمدت الإبقاء على بعض العبارات باللغة الدارجة كما توارثتها
. الأجيال

   الجازية الهلالية تجربة لامرأة ولدت في مجتمع قبلي، استطاعت بفعل حذاقتها أن تحصل على ثلث المشورة في قومها، وذلك بعد القصة الشهيرة لابن قبيلتها ʺأبا زيد الهلاليʺ الذي لا تختلف قصته كثيرا عن عنترة بن شداد، فقد نكره أبوه وعشيرته لسواد لون بشرته على خلاف قبيلته، فهاجرت به أمه إلى قبائل « الزحلان » التي آوتهما، إلى أن اشتد ساعده وبلغ أشده. بعد بضع سنين، قامت حروب شرسة بين قبائل الزحلان وبني هلال، فحارب أبو زيد أهله حتى يأتوا إليه بأبيه. خشيت أمه ʺخضرة الشريفةʺ أن يقتل أباه، فخرجت أمام بني هلال، بعد أن كانت متخفية، لتخبرهم أن من يقابلهم هو ابنها وابنهم، فسروا بذلك وطالبوا بعودته. قبل أبو زيد عرضهم مقابل شرط واحد، وهو أن يفرشوا أمام موكب أمه حريرا من قبائل الزحلان إلى منازل بني هلال، تكريما وتنزيها لها من كل ما اتهموها به. لكن الشرط قد بدا لبني هلال صعب التنفيذ. فتدخَلت الجازية و أشارت عليهم بجمع ما لديهم من حرير وفرشه أمام ʺخضرة الشريفةʺ ، وما إن يُشرف الموكب على الوصول إلى نهاية الجزء المفروش، حتى يجمع بعض من خدمهم الجزء الذي مشى عليه الموكب، ويكررون فعل ذلك إلى أن تصل إلى منازل بني هلال. فسر بها أبوها الملك سرحان، ملك بني
. هلال، وانبهر من رجاحة عقلها وحدة ذكائها فمنحها ثلث المشورة في قبيلتها

    كان الهلاليون يقطنون بلاد نجد، وبحكم طبيعتها الصحراوية وقلة مياهها، فُرضَ عليهم نمط حياة شاق، كان من الصعب عليهم أن يتحرروا منه أو يفرضوا على أنفسهم نمطا غيره، فتراهم يجوبون أطراف الجزيرة وقلبها،
. ويركبون الصحراء من أدناها إلى أقصاها ليبلغوا الأقل من الشراب والأقل من الغذاء

   ولما جدبت أرضهم وجاعت بطونهم ونشفت ماشيتهم، رحلوا كعادتهم البدوية إلى أرض ʺالشريف بن هاشمʺ صاحب الحجاز، فتقدمت إليه ʺنور بارقʺ المكناة بالجازية -لطول شعرها- لمحاورته. كانت الجازية جميلة المنظر، لطيفة المحضر، بديعة الجمال، عديمة المثال في الحسن والكمال والقد والاعتدال، وفصاحة المقال، نظرت إليه قائلة “يا الشريف بن هاشمي، جيناك في عام شادة وشديدة، كان ما تعرف حوايلي كيال، نضت أنت يا الشريف بن هاشمي عملت فينا هول من الأهوال”. وقع شريف مكة في غرامها وطلب يدها من أخيها الملك حسن بن سرحان، مقابل أن يأويهم وماشيتهم، ويحسن ضيافتهم، وأصر على ذلك قائلا: “هاذ المرأة نديها، إذا صبية تعطوهالي، وإذا مرت راجل نديها”، فزوَّجه إياها، ونزلوا عنده حينا من الدهر، حتى حدثت بينه وبينهم فتنة ومغاضبة، فغادروا الحجاز وتركوا
. ابنتهم الجازية عنده، لتعيش معه حياة ملأها الحب والعيشة الهنية، تُوجت بإنجاب صبي وفتاة، ʺأحمدʺ وʺحمدةʺ

    استمر البؤس في مطاردة بني هلال وحلت بهم المجاعة، ولم يجدوا حتى ما يسد رمقهم ويبلل أمعاءهم، فقرروا الرحيل إلى الأرض التي لا تجدب والماء الذي لا ينضب، أرض تونس وبلاد المغرب، وكان لا بد أن يستدعوا الجازية ذات العقل البارق والذكاء الوقاد لتؤنسهم في تغريبتهم، فبعثوا لها رسولا ليطلب منها الهروب من زوجها الذي منعها من زيارة أهلها. لم يكن صعبا على الجازية أن تدرك بأن الأمور تحل بالسلاسة لا بالقوة، حيث أنها لا تستطيع
. أن تفر بين جمهور الخدم والحراس الذين نصبهم الشريف بن هاشم

    في الليلة التي استقبلت المرسول، قامت الجازية بتطييب خاطر زوجها، فتسامرا ضحكا ولهوا جلَّ الليل، وما أن حلَّ الصباح حتى طلبت منه أن لا يغادر إلى الصيد كعادته، ففرح لطلب زوجته وقبل بذلك. في الصبيحة الموالية اقترحت عليه أن يلعبوا ʺالخربـﭼـةʺ )لعبة تشبه الشطرنج، لا زال كبار السن في بلادنا يلعبونها إلى اليوم(، فاشترط عليها أن تخلع ثيابها إن كان هو الفائز، وأن تطلب ما شاءت إن فازت هي. في المرة الأولى كان الفوز حليفه، فكان له ما أراد. وفي المرة الثانية تغلبت عليه فطلبت منه أن تزور أهلها، فانزعج لطلبها ولكن وعد الحر دين عليه، فقبل بذلك شرط أن تعده بأنها ستعود ولن تخونه، فوعدته بذلك وقالت له: أمهلني ثلاث ليال حتى أجهز نفسي وآخذ متاعي، فأنا
. زوجة شريف مكة، لا ينبغي لواحدة من بنات هلال أن تفوقني جمالا

   انقضت الليالي الثلاث وجاء اليوم الموعود، وما أن همت بالرحيل مع زوجها حتى  قالت له « نسيت مشطي الذهبي »، فدخلت إلى بيتها، غسلت يديها ومسحت وجهها قائلة: “حلفت عليك يا هاذ الدار اللي دخلتك، لا نزيد
. ندخلك”، ثم خرج بها إلى أهلها

   ما إن وصلوا إلى سعيهم حتى أحسن بنو هلال ضيافتهم، وصاروا يرتحلون به وبها، كاتمين الرحلة عنه، فكانوا يموهون عليه بأن يباكر معهم للصيد والقنص، ويعودون به في الليل إلى بيوت قد بنوها في غيابه، فلا يتفطن لذلك، حتى رحلوا به سبعا وسبعين رحلة. وكانت الجازية تترك له في كل موطئ خبزا ورأسا مطهيا، فلم يشعر الشريف بن هاشم بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم، ففارقوه، بعد محاولات جمة منه لاسترجاع الجازية التي آثرت مصلحة قومها على زوجها، ورضت بحياة القسوة والترحال بعد أن كانت في كنف
. البذخ وراحة البال

   عاد الشريف بن هاشم إلى الديار مطأطئ الرأس، يجر ذيول الخيبة، خائب الظن في من أحبها فنقضت وعدها، عاد وقلبه مفتور على من تربعت على عرش قلبه وسكنت روحه، تلك التي كان يقول عنها: “الجازية خيرة النسا، إذا وقفت بين الرجال لا من يضدها، وإذا وقفت وسط النسا زادت وفا وكمال”. لم يتبق له من أمل إلا أن يطلب من ابنه أحمد أن يحاول إقناع أمه بالعدول عن تعنتها والرجوع إلى بيتها وعائلتها، قائلا له: “سير يا أحمد يا وليدي، كاشما
… تعيد عني من الأخبار، ولا قولي يا مشوم ارتاح”

   امتطى أحمد حصانه وجاب البلدان، حتى وصل إلى المكان المقصود حيث خيمة أمه، فحاورها من وراء الستار، وهو يتقطع من البكاء عندها، راج منها العودة، قائلا لها: “علاش يا يما، خليتينا دار بلا عيال، خليتينا بيت بلا ستار…”. حن قلب الجازية، فمهما بلغت همتها ومهما وصلت صرامتها إلا أنها تبقى أما، فظهرت له من وراء الستار متحسرة على فراق عائلتها وقالت: “وحشك يا الشريف بن هاشم ووحش ولدي أحمد وبنتي حمدة راهو في بطني شَعـﱠال”. فقررت الرجوع مع ابنها وكلها غبطة وسرور، و لكن وهُما في طريقهما، أزاح ابنها اللثام عن نيته وتلاعبه بمشاعرها، وقال لها: “نديك يا أم خشان لبابا، يضربك ويكتفك ويبيتك بين الروث والزبال، نديك يا أم خشان لبابا، يضربك ويكتفك ويبيتك بين زوج حيطان”، فنادت الجازية مستنجدة: “يا زيد يا بوزيد يا العزيز تعال، ابن البطن سمعنا منو فال، وولد الناس لا عليه سوال”، فلحق بها أهلها ممتطين خيولهم لاستردادها، وخشية منها أن يؤذوا ابنها
… نزلت وأمرته بالهروب

    بقيت الجازية مع قومها، ولم يغلبها على العاطفة الخاصة إلا العاطفة العامة تجاه قبيلتها، لتفارق رغد العيش إلى جفوة الحياة القاسية، وانتقلت معهم في رحلتهم إلى بلاد المغرب، فما كانوا يفصلون في أمر دون الرجوع إليها في الأمور السياسية وفي ميادين الحرب، فكانت تخرج في كل غزوة على رأس من الجميلات يشجعن الفرسان بأناشيدهن ويحرضنهم على الذود عن قبيلتهم وعن حرمتهم. هي التي حملت « ذياب بن غانم » (من كبار فرسان قبيلتها(على منازلة « الزناتي » ملك تونس والأخذ بالثأر منه، وهي التي ساعدت أبو زيد بالحيلة على اقتحام سور القيروان بعد
. حصار طويل و الاستيلاء عليها

    وبعد الاستيلاء على تونس و بلاد المغرب، استفاق جشع وطمع ذياب بن غانم في السلطة، ليقتل أخاها الحسن بن سرحان وفارسَ قبيلتها أبو زيد الهلالي، فهربت الجازية بأولاد الحسن وأبو زيد، وأرضعتهم من حديد الثأر وربتهم على القتال، ولما اشتدت سواعدهم راسلوا ذياب وهددوه بالثأر وطالبوه بالقتال.. ولما تلاقى الجيشان أبت الجازية إلا أن تنازله، فتنكرت في ثياب فارس في الميدان، وقاتلت بكل بسالة مؤمنة بأن خير الموت تحت ظلال السيوف، فكان
… لها ذلك أن أرداها قتيلة

   الجازية الهلالية، أو نور بارق، الفاتنة الساحرة المقاتلة، تلك التي أحبت فغوت، والتي تبنّت القتال فرسخت في الأذهان. إلى يومنا هذا، لا يزال صيتها يُدوِّي في أروقة الذاكرة الجماعية، وخير دليل على ذلك قبرها الشاهد على
. تاريخها، في مدينة سُميت باسمها، بلدية الجازية، ولاية أم البواقي، الجزائر

    فور انتهاء الحكاية وعلى ذكر بلدية الجازية، استطردت جدتي، تطلعنا على أصل تسميات بعض مدن الولاية. أم البواقي ترجع تسميتها إلى البطلة الأمازيغية ʺالكاهنةʺ التي تركت أبناءها في هاته المنطقة، لتسمى ʺأم الذين تبقواʺ، وإلى البطلة ذاتها نسبت مدينة مسكيانة ʺميسن الكاهنةʺ، وبين الاثنين أبت فرس ذياب بن هلال إلا أن تترك بصمة العرب في مدن شرق الولاية، إذ ضلعت رجلها في منطقة، سميت على إثرها ʺمدينة الضلعةʺ، ثم أنـﱠت ألما في منطقة نسبت إلى أنينها فسميت ʺواد نينيʺ، لتموت في عين البيضاء التي لا تزال تترصع بنصب في وسط المدينة في المكان
. الذي فارقت فيه الفرس البيضاء الحياة

   من لا يعرف تاريخه لا يحسن صياغة مستقبله. وتاريخنا حضن دافئ ومعلم مرشد، تاريخ تصل عروقه إلى مهد الإنسانية. تاريخ يغرس في أذهاننا مجد آبائنا وفي قلوبنا عشق وطننا. تاريخ إن نسته كتب المؤرخين فألسنة المسنين ترويه، وإن شلت الألسنة فالأرض تحييه. وولاية أم البواقي، على غرارها من الولايات، تكفيها معاني أسماء مدنها لتعبر عن التاريخ الذي قام على أرضها، تاريخ امتزجت فيه الأصالة الأمازيغية بالبصمة العربية لتكوﱢن ولاية
. جزائرية بامتياز