حدائق الحيوان البشرية

محمد أمين بُرجة

   يقول فولتير في كتابه « القَدَر »*: « من الأفضل المخاطرة بإنقاذ شخص مذنب، بدلا من إدانة آخر بريء ». حديقة الحيوان هي المكان الأوحد الذي كلُّ سجنائه أبرياء، هذا إن تكلمنا عن حيوان، فما بالك إن كان من زُجَّ به خلف تلك القضبان إنسانٌ، لم يكن ذنبه إلا أنّ جِلدتَه خلافا عن الأوروبيّ اكتست داكن الألوان، أو تكلّم بغير ذات اللّسان، أحيانا،
.فقط لأنّه وُلِد في الجانب الخطأ من المكان

   تزامنًا مع الاكتشافات المتتالية لبقاعٍ في العالم لم تكن تُعْرَف سالِفًا، سعت الدّول الأوروبيّة استجابةً لنهضتها العلميّة والصّناعية إلى توسيع نطاق ممارسة سلطتها وتأثيرها عبر الاستعمار الثّقافي، السّياسي واستخدام القوة العسكرية، مُدَّعِيَّة أنَّها منْ تَحْمِلُ على عاتِقِها مُهِمَّةَ توجيهِ العالم، تمدُّنِه والأخذ بيده إلى برّ التقدّم والتّحضّر. ما يسمّى بالامبريالية. كَكُلِّ ظاهرةٍ في بداية نشأتها وتهرّبا من الانتقادات الأخلاقية التي قد تُوَجَّهُ لها، استمدَّت شرعيتها من رجال الدّين، فأجاز الفاتيكان على لسان البابا آنذاك استعباد الزّنوج والاستحواذ على أراضيهم قائلا: « هؤلاء الزّنوج لا يملكون أرواحًا، هم لا يشبهوننا في شيء »(1)، ودَعَّمَ موقفَها ذاك بعضٌ من كبار كتاّب ذلك العصر وفلاسفته، فيقول ارنست رينون: « الاستعمار هو ضرورةٌ سياسيةٌ من الدرجة الأولى.. ولا شيء يدعو للحيرة في غزو بلدٍ ذو عرقٍ سامٍ لبلدٍ ذو عرقٍ دنيء »(2) ، وقال مونتسكيو: « لا نستطيع أن نستوعبَ بأنّ الله، الحكيمَ، قد يضع روحًا في جسدٍ أسودَ.. من المستحيل أن نتقبَّل بأنّ هؤلاء بشرًا »(3) ، أمّا الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هيغو فتجلّت عنصريتُه للعيان في قوله: « ماذا ستكون إفريقيا بدون البيض؟ لا شيء. كتلة من الرمال، ليل، شلل.. إفريقيا موجودة فقط لأنّ الرجل الأبيض وضع لمسته فيها… في القرن التاسع عشر، جعل الرّجل الأبيض من الأسود إنسانا، وفي القرن العشرين ستجعل أوروبا من إفريقيا عالما »(4). ذهبت الامبريالية إلى أبعد من ذلك فجعلت العلم ممهّدا ومطبّلا لها، والخوض في ذلك لا يمكن أن تحتويه مقدّمة. فعندما تتحوّل أداةٌ لتنوير العقول وصنع العُقَّالِ إلى ذريعةٍ للتنكيل ونصب الأغلال، وجب
!تخصيصُ فَصْلٍ لها من المقال

   حين عاد مستكشفو القرن 19م أحضروا معهم مجموعةً من الكنوز، من بينها الحيوانات البرية لعرضها على الأوروبيين، فأصبحت الشهية مفتوحة على كل ما هو غريب، ما دعا رجال الأعمال وعلى رأسهم الألماني « كارل هاجنباك » إلى استثمار رؤوس أمواله في استيراد الحيوانات وعرضها. في سنة 1870 بدا وكأنّ أزمة قد أصابت تجارته، لذا بدأ يبحث عن عالم آخر غريب قد يستقطب الأوروبيين ويحقق له مزيدا من الأرباح المادية، مستغلاً في ذلك فضول وتعطّش الكثيرين لمعرفة عادات ونمط حياة بقية الشّعوب، لِمَا وجدوه من إثارةٍ في كتابات وقصص المستكشفين والمغامرين حول القبائل البدائية. هنا كانت كلّ الظّروف الثقافية والفكرية مهيّأةً لظهور أبشع صورةٍ
.لاستغلال بني البشر لبعضهم، تلك الصورة جُسِّدَت في حدائق الحيوان البشرية

   ما بين القرن 19 و20م توافد أكثر من مليار ونصف من الأوروبيين للتعرّف على الوافدين الجدد من إفريقيا، آسيا، أستراليا وأمريكا الجنوبية، وقد رُوِّجَ لهم قبل وصولهم بأنّهم أناسٌ همجيون قادمون من أراضٍ بعيدةٍ. وما بين القرنين تمّ إغراء أكثر من 35000 من السكان الأصليين لعرض طريقة حياتهم، أداء طقوسهم، عاداتهم ورقصاتهم. فتراهم مجتمعين حول لهيب من النّار، ومن وقت لآخر يؤدّون عروضا رسمية، يبدون فيها متوحّشين وشرسين، فيتظاهرون بأنّهم يتقاتلون ويتنازعون باستخدام أسلحة تقليدية. لم يكن يتردّد المسؤولون عن الحدائق بإبعاد الأطفال عن أهلهم إن كان ذلك يتناسب مع جمالية العرض، فيُترَكُ الأطفال في أقفاص لوحدهم. كان ذلك مسليًا جدا للمتفرجين الذين لم يشعروا البتّة بأنّ ذلك لم يتجاوز الاستعراض، بل أخذوها على محمل الجد وصدّقوا بأنّ الوحشية طَبْعُهُم والهمجيّة دَيْدَنُهُمْ. فكان لذلك بالغ الأثر في تشكيل النّظرة الأوروبية تجاه غير الأوروبيين، وزرعِ تصوّر البشرية متطوِّرةً من الهمجية التي تُعْرَضُ عليهم إلى التحضّر الذي يعيشونه. كان النّاس أحيانا لا يكتفون بالنّظر إليهم من بعيد، بل يدخلون ويحاولون لمسهم، وإثارة انتباههم ورؤية ردود أفعالهم نتيجة رميهم بحجارة أو قطع نقدية، تمامًا كما يُفْعَلُ بالقِرَدَة. هذا الأمر ليس في منتهى العجب ولا قمة الغرابة مادام الإنسان وضع في قفصٍ واحدٍ مع حيوان، كما فُعِلَ بالقزم الكونغولي ‘أوتا بنغا’ الذي تقاسم قفصًا مع شيمبانزيه خلال نقله إلى حديقة حيوان ‘برونكس’ بنيويورك عام 1906. بقي ‘أوتا بنغا’ على قيد الحياة عقدا من الزمن، هو فعلا عاش مفردات اللغة العربية بإعجازها، فالحياة قيّدته حقيقة لا
!مجازا، وحينما تأكّد من استحالة عودته إلى موطنه الأصلي قرّر كسر ذلك القيد ووضع نهاية لمأساته، فمات منتحرا

   خلال حصار باريس 1870-1871 من قبل جيوش مملكة بروسيا، لم يجد أهل باريس ما يسدّ رمقهم ويسكت جوعهم، فأقْدَمُوا على افتراس الحيوانات التي كانت معروضة، كان آخرها الفيلَيْن ‘كاستور’ و’بوليكس’ ، وبدل تعويضها بحيوانات أخرى، فضّل مسؤول بلدية باريس ملء العاصمة بالحدائق البشرية التي انتشرت بكثافة،  مُستقبِلةً في ثمانينات القرن 19م إحدى عشر عنصرا من مجموعات باتاغونيا (منطقة في الشيلي حاليا) ، الذين كانوا بالفعل على وشك الانقراض، فحقّق ذلك أرباحا عظيمة بتهافت النّاس عليهم للتعرّف على لغاتهم وثقافتهم قبل أن تختفي من
.على وجه المعمورة

مساء يوم 30 سبتمبر من سنة 1881 على الساعة الرابعة زوالا، سجّلت حديقة التأقلم** بالعاصمة الفرنسية وسجّلت الإنسانية معها وفاة أوّل طفل معروض، إنّها الفتاة ‘كابلين’ ذات الحولين والنّصف، تمّ لفّها في فرو ودفنت في مكان ما داخل الحديقة. وفي مشهد مأساوي ترى العشرة الباقين يرمون قطعا من الخبز واللحم داخل النّار التي تجمّعوا حولها، تعبيرا عن غيضهم وحزنهم بفقدان عنصر يسري فيه دمهم، وكأنّهم يقولون أنّ لاشيء يحلو لنا بعدك يا كابلين. في الصبيحة الموالية يستمرّ العرض وكأن شيئا لم يكن، وعلى الأم أن تنسى صغيرتها التي تقطن تراب مكان العرض. القاعدة في المآسي أن تستمتع بالمأساة الحالية، لأنّها مهما بلَغَتْ من الأسَى ستبقى أرحم ممّا سيليها، فَهُمْ في موعدٍ مع رعبٍ من نوعٍ آخرَ فَوْرَ نقلهم إلى العاصمة الألمانية برلين. إذ استلزم الأمر استدعاء الشرطة لإخماد أعمال شغب أحدثها آلاف الزوار ، فبعدما بالغوا في شرب كميات كبيرة من الجعّة، بدؤوا في قذف الرّهائن بالحجارة مطالبين بمعاشرتهم على الملأ. هنا يصدق المعنى الحرفي لما قاله كلود ليفي ستروس: « الهمجية هي قبل كل شيء في الإنسان
« .الذي يعتقد بها

   هنا نصل إلى الفصل الأهم من الموضوع، لنعالج كيف حدثت الطّفرة العلمية التي مهّدت لهذه الظاهرة وأعطتها مشروعية عمياء. في عشرينيات القرن 19م شهد العالم بداية ما يعرف بالعنصرية العلمية، حيث أصبح يُنْظَرُ إلى الاختلافات الجسدية والبدنية من أجل فهمٍ أفضلَ للاختلافات الإثنية والفكرية بين الحضارات، وبشكل خاصٍ بين الأعراق. قامت المؤسَّسات العلمية بتمويل حدائق الحيوان البشرية، التي أعطتهم الفرصة المثالية للتّفحّص المباشر للعيّنات والتّأكد من تناسبها مع نظرية التطور التي قال بها داروين. العنصرية العلمية كانت تتخطّى القياسات البسيطة الاعتيادية لعلماء الأنتروبولوجيا كقياس الطول والوزن، فأسَّسوا لعلمٍ يرتكز على قياس حجم الجمجمة وشكلها من أجل تحليل شخصية الإنسان. فكانوا يأخذون عيّنات من السّكان الأصليين إلى مخابرهم لقياس درجة ذكائهم، مزاياهم الجسدية، بل وحتى درجة تحمّلهم للألم. فهذا ‘بيشوف’ رئيس قسم الأنتروبولجيا في برلين يصرّ على حقّه في دراسة الأجهزة التناسلية للفتيات القادمات من باتوغونيا، فلم يشفع لهنّ رفضهنّ لذلك بعد موتهنّ، ليقوم بتشريحهنّ ودراسة كلّ ما قاده فضوله إليه. وهذا ‘ويليام ماك جي’ في أمريكا يصدر مقالا في جريدة علمية رسمية يقارن فيها بين القردة والكونغوليين الذين جُلِبُوا بالقوة. وهذا عالم أنتربولوجي آخر يحصل على الإذن بالحصول على أدمغة كل السّكان الأصليين بعد وفاتهم من أجل إجراء دراسات مقارنة ومفصّلة. تلا ذلك انعقاد مؤتمراتٍ عالميةٍ وملتقياتٍ علميةٍ للبرهان ليس فقط على الاختلاف بين الأعراق بل ليظهروا أنّ بعض الأعراق تتفوّق على غيرها. هنا انتقلت العنصرية العلمية إلى عنصرية شعبية، تمّ فيها تبسيط الأفكار والترويج لفكرة تفوّق العنصر الأبيض وتواجده على
.رأس قائمة الأعراق، بينما يتذيّلها الإنسان الأسود 

   يقول فولتير في كتابه « أطروحة الميتافيزيقية »***: « أستطيع أن أرى بلا شك أنّ هذه الحيوانات الصغيرة (الدّغفل، الشّبل والجرو) تفوق الزنجي الصغير ذا الستة أشهر بمزيد من القوة ، المهارة، الأفكار، العواطف وقوّة الذّاكرة بشكل لا يضاهى ». (5) قد يتبادر إلى ذهن أيّ قارئ، كيف لي أن أستهلّ مقالي بقول كاتبٍ ثمّ أستشهد بآخرَ ينافيه تمامًا !! في حقيقة الأمر القولان لا يناهضان بعضهما، إذ أنّ حديث فولتير عن الإنسان البريء والمذنب لا يشمل غير الأوروبيين، فغير العرق الأبيض لا يندرج تحت لواء الإنسانية. ويؤكّد على ذلك في قوله: « إنّ الرّجل الأبيض أرفع من هؤلاء الزّنوج، تماما ككون الزّنوج أرفع من القردة، وكرفعة القردة على الرخويات »(5) فنفهم من ذلك جليًا أن الأفارقة والأمريكيين الجنوبيين لم يكونوا بشرًا بالكامل، بل كانوا يشكّلون الحلقات المفقودة في السلسلة الكبيرة للكائنات الحيّة ، الحلقات التي تربط بين
.الإنسان والقِردة

لو أجريْنا بحثاً بسيطا في محرّك البحث ‘غوغل’ عن أوّل امرأة تجرّدت من ملابسها خلال عرض راقصٍ في باريس، ستكون النّتيجة الراقصة الهولندية ‘ماتا هاري’، لأنّ بقية من سبقها من نساء الزّنوج اللّائي كنّ يقدّمن عروضهنّ عاريات لا يُعتبَرْنَ نساءً حتى يدخلن التّصنيف.  وإذا أسقطنا ذلك على زماننا ترانا نندهش من بعض منظّمات حقوق الإنسان، لِمَ لا تقوم بدورها في الدّفاع عن حقوقنا وحقوق الشّعوب المُضْطَهدة! نحن مخطئون تماما بشأن ذلك، هي تقوم بدورها على أتمّ وأكمل وجهٍ. هي تدافع فعلا عن حقوق الإنسان، ولكن تُرَانَا تتوفّر فينا المعايير التي وضعوها للإنسانية ؟؟

  
.سيبقى رفات الفتاة كابلين في حديقة التّأقلم شاهدًا على إجرامهم، وستظلّ روح أوتا بنغا عالقة في تاريخ طغيانهم

يقول ألبير كامو: « الإنسان ليس مذنبا تماما، فهو لم يبدأ التّاريخ، وليس بريئا تمامًا مادام يكمله ». قد نستغرب من مدى غفلة أولئك الذين شاركوا في صناعة هاته المشاهد المهينة، من قريب أو بعيد، من متفرّجٍ تسلّى برؤيتهم أو عالمٍ اشتغل بتشريحهم أو رجل أعمال جعل منهم بضاعةّ لتسويقهم. كلّهم كانوا أشخاصًا نبلاء، وكانت الظاهرة طبيعية في
.زمانهم، تماما كما هي مظاهر الظّلم في زماننا، تعايشنا معها وأصبحنا نراها طبيعية

المصيبة ليست في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار. تُرَانا، ما سيعيب علينا أحفادنا؟ وما ستكون عناوين مقالاتهم
التي سيتساءلون فيها كيف غفل أجدادهم عن مثلما تجاوُزاتٍ؟

*Zadig ou la Destinée
**Jardin d’Acclimatation
***Traité de Métaphysique

قائمة المراجع

  • فيلم وثائقي حول الإيديولوجية الاستعمارية، من إنتاج وزارة المجاهدين.
  • حدائق الحيوان البشرية ــ مشاهد من فاشية الغرب الباقية ــ سارة عادل.
  • فيلم وثائقي: حدائق حيوانات بشرية حقيقية. ــ الجزيرة الوثائقية ــ.
  • حدائق الحيوان البشرية.. يوم عُرِض البشر في أقفاص بأوروبا ــ طه عبد النّاصر رمضان.
  • (5) Traité de Métaphysique -Des différentes espèces d’Hommes- Voltaire
  • Zoos humains : entre mythe et réalité- par Nicolas Bancel, Pascal Blanchard, Gilles Boesch, Sandrine Lemaire.
  • Wikipédiéa : les Zoos humains
  • Wikipédia : scientific Racism
  • Reportage : Sauvages Au Cœur Des Zoos Humains. 2018
  • Reportage : Human Zoos : America’s Forgotten History of Scientific Racism
  • (2) Ernest Renan, Réforme intellectuelle et morale de la France , 1871 p 390
  • (1) L’Eglise , la chrétienté et l’esclavagisme, le site : Chretien.at
  • (4) Le discours de Victor Hugo sur l’Afrique, le 18 Mai 1879. Le site : afrikmag.com
  • (3) Montesquieu (De l’esprit des lois, 1748)