الكاس تاعي ما يبانش

يوسف إزرارن

عندما عاد سكّان القرية لمنازلهم ذلك المساء، لم يكن يخطر على بال أيّ واحد منهم بأنّ الموعد الذي كانوا ينتظرونه منذ سنوات قد حلّ أخيرا. كان الطّفل « عمّار » يركض على عجلٍ من منزل لآخر حاملا في يده مجموعة من الرسائل، أعطاها إياه أحد الشيوخ وأوصاه بأن يوزعها قبل أن يُرخي الليل سدوله على قريتهم. فصار يضع أمام عتبة كلّ منزل
.رسالة، يدقّ الباب بقوّة، ثمّ يمرّ للذي وراءه

لم يكن قد مرّ على تواجد موسى في منزله إلا بضع دقائق، ولم يكد يستلقي على أريكته المريحة في قاعة الضّيوف حتّى سمع طرقا على الباب. بعد يوم شاق طويل من العمل أنهك ظهره، لم يعد يقوى على النّهوض، ولو أضفت فوق ظهره شعرة لقَسَمْتَهْ. لكنها لم تكن سوى طرقة واحدة، قوية، كأن صاحبها على عجل، وقد سمع موسى هرولته، أثارت
.في نفسه من الفضول ما أنساه التعب و ألم ظهره ولو لبرهة

  • شكون؟


:لم تلقَ صيحة موسى أيّ إجابة، ثمّ نهض من مكانه غاضبا وأعاد سؤاله مرّة ثانية لكن بصوت أعلى هذه المرّة

  • شكووون؟ كان أكثر ما يخشاه بأن تكون مزحة ثقيلة أخرى من أبناء جيرانه الأشقياء. مزاجه تلك الأمسية لم يكن يتحمّل المزاح، ليس فقط جرّاء التعب، ولكن أيضا لأن الميّاه منقطعة عن قريتهم منذ يومين. لم يبقَ
    .لموسى في قوس الصبر منزع، ولو كانت لهُ عصى لضرب بها الأرض عسى أن تنفجر عين يسقي بها أهله

كاد موسى أن ينفجر غيضا حين لم يجد الطّارق، لكن عاد الهدوء إليه حين وجد رسالة بجانب الباب، حملها برفق، ثم
.عاد لداخل المنزل موصِدا الباب بكعب قدمه


:عاد ليجلس على أريكته، فتحَ الرسالة برفقٍ وراح يحاول قِراءتها

« من الشيخ إبراهيم إمام القرية، إلى كافة سكانها المخلصين، بعد الحمد والصلاة على رسول الله، أود أن أدعوكم اليوم
« …إلى

 إنقطع التّيار الكهربائي عن منزله، ولم يتمكن من قراءة ما تبقى من الرسالة، كان ذلك بمثابة القطرة التي أفاضت
:الكأس، فراح يصرخ، ولو ناديت يا موسى لأسمعت لكن لا حياة لمن تُنادي

  • والله أَعْجَبُ لحال هاته البلاد، أدنى مستلزمات الحياة لا تتوفّر فيها، لا ماء ولا كهرباء، لم يبْقَ إلّا أن يقطعوا عنّا الهواء !
  • بالاك الكونتور يا وليدي، ردّت عليه والدته من غرفتها، قبل أن تضيف:
  • أخرج وتفقّد إن كان هذا حال كل الجيران ! إن عمّت خفّت !


.لم يكد موسى أن يتجاوز عتبة منزله، حتى التقى بجاره « علي » مهرولاً صوب الجامع

  • إلى أين ؟ كلمهُ موسى مستغربا.
  • ألم تصلك الرّسالة؟
  • بلى. لكنّي لم أطّلع عليها بعد. ماذا كُتِب فيها ؟
  • رافقني إلى دار الشّيخ، ستفهم أكثر هناك.


: توجّه الاثنان معا صوب منزل « الشّيخ » الذي كان يخطب مُحاطا بجميع رجال القرية

  • غدًا بحول الله، سيحِلُّ موكب الوزير بقريتنا. لن تُتاحَ لنا فرصةً أفضل منها لإبلاغه بانشغالاتنا وإعلامه بالمشاكل التي نعاني منها.
  • أليس من حقّنا أن نجد الماء عند فتح الصّنبور كل يوم !  صاح أحد الرجال من الخلف، قبل أن تتوالى صيحات السّكان المستهجنين:
  • التّيار الكهربائي نادرًا ما تمرُّ ساعة من غير أن ينقطع مرة أو إثنتين.
  • متى سيعبّدون لنا الطّريق !
  • يبنون لنا مدرسة بالجوار، تهوِّن من معاناة أبنائنا.


:قبل أن يستوقفهم الشّيخ ويُطمئنهم بأنه سيوصل جميع مشاكل السكان لسيادة الوزير. ثم قال

  • كما تعلمون ! مرّ زمن بعيد عن آخر زيارة لمسؤول في قريتنا. ونحن أهل الكرم والضيافة، يجب أن نُكرِمَه ونحسن ضيافته بهديّةٍ، لعلّ مشاكلنا تجد مكانًا لها في قائمة اهتماماته.
  • ما عساها أن تكون الهديّة مثلاً؟ نطق أحد الرّجال.
  • مثلما لا يخفى على أحدٍ، أهل قريتنا معروفون بإنتاج العسل، يكاد لا يخلو منزلٌ من خليّة نحلٍ.عيْنُ الصّواب أن نُهديَه إناءً كبيرا من العسل. كلُّ واحدٍ منّا يأتي صباحًا بفنجان صغير من العسل ويسكبه في الإناء الذي يجده أمام الجامع.

تفرّق السّكان وعاد كل منهم إلى منزله، كان باديا على ملامح موسى بأنّه لم يكن راضيا بفكرة الهديّة، وقد كان رجلا
.ماكرا فيه الكثير من الحيلة والذّكاء. صحيح بأنه كان يريد التغيير في قريته، لكنه لم يكن متحمسا لفكرة أن يساهم فيه

في صباح اليوم الموالي، كان موسى بين جموع الناس التي تسابقت بفناجينها نحو إناء الوزير، فيساهم كل منهم بقليل من العسل. ما هي إلا دقائق حتى جاء دوره، نزع الغطاء عن فنجانه، وأفرغ ما به في الإناء، سارت خطّته تماما مثلما خطّط لها، ولم ينتبه أي شخص من تلك الحشود بأنه أفرغ ماءً داخل الإناء. ومن سيكتشف ذلك؟ فهو يعلم بأنّ قليلا من
.الماء في وسط عشرين لترا من العسل، لن يغيّر من مذاقه شيئا

إنتهت زيارة الوزير، وسلّم له الشّيخ الهديّة، فوقعت في قلبه موقعا عظيما، ووعد بأنّه سيساهم في تغيير أوضاع تلك القرية للأفضل. بلغ الوزير منزله، وأمر الخدم بأن يأتوه بإناء العسل، فيرتشف منه القليل، قام الخدم بإفراغ الإناء في
.كأس كبير من الزّجاج، فإذا بهم يتفاجؤون… الإناء كلّه مليءٌ بالماء


.فكر موسى بأن كأسه « ما تبانش في وسطهم »، لكنه لم يفكر بأن الجميع سيعتمد نفس منطقه

التغيير ليس بتفاحة تسقط وحدها حينما تنضج، وإنما ينبغي على الشعب التحرك لقطفها، الفرصة كانت مواتية لأهل
.القرية كي تتغير أحوالهم، لكن ربما ينبغي أن يغيروا ما في أنفسهم أولا

كان موسى يعتقد بأنّ كأسه لن يغيّر شيئا، كان يعتقد أيضا بأنّه أذكى من في القرية، وبأنّه الوحيد الذي بإمكانه التّفكير
.في تلك الحيلة الماكرة، لكن اتّضح في النّهاية بأنّ الجميع في نفسه القليل من المكر

في قرية موسى، كان مربي الدواجن يحقنها بمواد مسمنة ومسرطنة، كان الخضار يسقي  خضراواته بمياه وسخة، جارهم المقاول لم يعبد الطريق جيدا وأخذ جزءا كبيرا من أموال المشروع، أما الميكانيكي فقد كان يستعمل قطعا غير أصلية لإصلاح السيارات، وصاحب المطعم لم  يغير الزيت التي يستعملها منذ ستة أشهر. وكان معظمهم يُلقي بنفاياته في الشارع أو في الغابة المجاورة. أدرك موسى حين فكّر في الأمر جيدا، بأن الجميع مسؤول عن الوضع في القرية،
. »الجميع يردد في نفسه نفس العبارة… « الكاس تاعي ما تبانش