صلاةٌ في الجانب المُظلم من القمر

يوسف إزرارن

تقول العرب فُلانٌ يقوم الضحى، وهي كناية عن الدّلال والتّرف. عندما تُحيط بك كل ألوان الترف، فإنك تنسى مرور الوقت، ولا يعود للاستيقاظ باكرا معنى. أتذكر مقولة كان يرددها صديقي عماد « هذا العالم بيد من يستيقظ باكرا » كنت أرد عليه ممازحا فأقول : « هذا العالم بيد من يرأسُ عُمّالا يستيقظون للعمل باكرا ».

حين تكون في سفر فإنك تنسى مرور الوقت، تتشابه بداية الأسبوع مع نهايته فلا يعود لعدّ الأيام معنى. كنت يومها في مدينة شرم الشيخ، وكان يوم جمعة، لكنني لم أتفطن لذلك حتى بلغ النهار مُنتصفه، طلبت حينها من النادل أن يُعجّل في جلب الغداء حتى أعدّ نفسي للصلاة. كانت الساعة تقارب الواحدة ظهرا حين هرولت خارج الفندق أبحث عن مسجد قريب كي ألحق بالجماعة.

« المسجد بعيد من هِنا يا باشا، لو رحت للمصلى خلف الفندق حيكون أفضل »، هكذا أجابني الحارس المصري حين سألته عن أقرب مكان أصلي الجمعة فيه، فرحت أتتبع خطى المصلين المتوجهين صوب ذلك الجامع. مكان بسيط، الطريق إليه لم تكن معبدة، والدور المحيطة به تتناقض تماما مع ما رأيته من بذخ العيش في شرم، لوهلة ظننت أنني في مدينة أخرى. هنا الجانب المُظلم لشرم، يمر عليه السياح كل يوم، لكن لا يراه أحد. لكن لِمَ اللوم على السُياح والزوار؟ عين الإنسان قصيرة، وما ذنبها إن لم تُبصر من القمر إلا جانبه المُنير، ما دامت الطبيعة ترضى بذلك وتواطأت معها السماء والأرض والشمس والنجوم، فلا حيلة للضعيف سوى أن يُشاهد ما يُريد له الجميع أن يُشاهده. هي نفسها قوانين الطبيعة التي تُرسل سكان المناطق المُظلمة إلى مناطق النور صباحا، فيعملون بجدّ وتفانٍ كي يزداد الجانب المُنير نورا، ويعودون في المساء للجانب المُظلم للنوم والراحة، فيزداد ظلاما بعد ظلام، وحسبهم في ذلك أنهم حصدوا جُنيهاتٍ معدودات، يقتاتون منها في الظلام ريثما يعودون لأرض النور في الصباح.

كان المصلى الذي يقع في الجانب المُظلم أنظف ما في الحي، وقد كان – على عكس البنايات التي تقع في الجانب المُنير – مكانا للتعبّد يذكر فيه الناس خالق الليل والنهار، والنور والظلام، والأرض والسماء، والشمس والقمر. وما أدراك، فلعلّه قد بلغ بذلك الذّكر مكانا عاليا مُنيرا في السماء لا تبلغه ناطحات السحاب ولا فنادق الجانب المُنير من المدينة. حين اتخذت مكانا أجلس فيه كان الإمام قد صعد المنبر يخطب في الناس. رُحت أنظر إليه وهو يرتدي لباسا أبيضا لكنه ليس بقميص الصلاة، وإنما كان لباس نادل في الفندق الذي كُنتُ أقيم فيه. قبل ساعة واحدة كُنتُ قد طلبتُ من زميله أن يُعجّل في جلب الغداء، وها قد انقلبت الموازين الآن. هو في أعلى المنبر وأنا في الأسفل بين المُستمعين، وما رفعه لمكانته تلك إلا العلم الوفير الذي أحاط به. لم تمر ثوانٍ حتى وجدتني شاردا أتمعن في خطبته التي لا تصدر إلا من رجل مشى في درب العلم وخاض مضماره. كانت فصاحته منقطعة النظير، حدثنا عن قصة نادرة ظلم فيها الإمام مالك شابا وضربه، فاعتذر منه بأن عوضه عن كل ضربة حديثا، ولما فرغ من سرد الأحاديث أجابه الشاب « يا مالك زِد في الضرب وزد في الحديث ».كان مُعظم حديثه عن السعي لطلب العلم، وأوصانا بألا نركض وراء دار الفناء وننسى نصيبنا من دار البقاء، فكانت كلماته تربت على قلوب المُصلين الذين يُقيم مُعظمهم في الجانب المظلم من المدينة. ولكي أزيدكم من الشعر بيتا، فإنه لم يستعن في خطبته بأي ورقة يقرأ منها خطابه، بل كان يتحدث إلينا مرفوع الرأس بما جادت به قريحته وما أوتي من العلم، كله فصاحة وثقة وتواضع. عُدت إلى الفندق بعد انقضاء الصلاة، لكن تلك الحادثة لم تُغادر بالي أبدا. كنتُ أبحث عنه بين النادلين في المطعم كل يوم لكنني لم أوفق للقائه. ولما كان آخر يوم لي هناك، ناديت عليه وأصررت على ذلك، انتظرته ثم سلمت عليه وشكرته على ذلك الدرس وعلى تلك الخطبة.  كم من رجل بسيط لو وُزن علمه ذهبا لصار أغنى الناس، فلا خوف على أمثاله، أغنياء السماء ونُجومها، أعلى الله قدرَهُم بعلمهم، بل الخوف على أمثالي، أن نُغتر بالعيش في الجانب المُنير من المدينة ونرضى به فننسى مصيرنا ونُفضل النور على الظلام. ثم نتسابق على مكانتنا في أدنى الأرض فننسى أن نحجز مكانا بين السماء والنجوم.