المتنبي و الحُمّى

بومحمد جمال الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد تعاقب السنين و تواليها و أنت تمارس الطب، ستتغير في نفسك أشياءُ كثيرة ،قد تدرك بعضها و قد تتدارك
.بعضها الآخر إن كنت كيِّساً فطنا

و لكن في غالب الأحيان يفعل الزمان فعلته، كعادته في حين غفلة من مريديه، فبعدما تصبح الفحوصات و المناوبات روتيناً يوميا، و يصبح لفظ « الدكتور » مألوفاً عندك أكثر من اسمك الذي سميت به، غالبا ما يتحول
.المرضى إلى مجرد حالات قد يختلف تشخيصها تماما كما يختلف مآلها

حينها لن تكون قادراً على تذكّر كل تلك الأسماء و ستعجز عن التفكُّر في تقاسيم و ملامح كل تلك الوجوه، وحتى مشاعرك لن تقوى على أن تتّقد و تبدي الأسى كسابق عهدها مع حالات الوفاة .. و لا ريب فإنّ كثرة التّماس تُميت الإحساس، و ليس ذلك في نفسك بالانقلاب المشهود بين ليلة و ضحاها، و لكنها على قول امرئ
.القيس : نفسٌ تسَّاقَطُ أنفُسَا

ومع ذلك، فإنك لن تستطيع أن تنكر أن تلك الأعوام قد حملت بين دفّاتها حالات يستحيل عليك نسيانها، و حكايات لايبرح طَيفُها أن يزورك بين الفينة و الأخرى. و قد تجبرك بعض تلك الحالات أن تقوم من مقامك لتُمرر أصابعك على ملفات الأرشيف تتحسَّسُها، لتعود كي تتصفحها فتعود بك إلىى سالف عهدها و تثير فيك
.ما قد أثارت

و لعلّنا نفعل ذلك اليوم، فننفض الغبار عن بعض تراثنا، و نقصِد صفحات خلّدها كاتبها ليرويها لنا التاريخ، و
.ما التاريخ و لا الدّهر إلاّ من رواة قصائده… إذا قال شعراً أصبح الدّهرُ مُنشِدا

صاحبنا في هذا السّفر حيث نغوص في أعماق الأدب و الشعر هو مالئ الدنيا و شاغلُ النّاس : أحمد بن
.الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي ، أو كما نعرفه جميعاً : أبو الطيب المتنبي

وقد اعتاد الأطباء منذ عهد « جالينوس » أن يبدأوا فحصهم باستجواب المريض ومساءلته، ومما لا أشك فيه أن طبيب ذلك العصر لم يجد صعوبة في استنطاق المتنبي ليبوح له بما يشكو منه، فالشاعر يبتدر القول و
: يبادر به

أَقَمتُ بأرضِ مِصرَ فلا ورَائِي ●●● تَخُبُّ بيَ الرِّكابُ ولا  أمامي

 و كأنه عالم بسؤال الطبيب و مراده، فهو يحيطه علماً بأرض المُقام، أرض الكنانة، و بمَطِيِّهِ التي قعدت عن
.المسير

و مَلَّنِيَ الفِراشُ و كَان جنبِي ●●● يَمَلُّ لِــقاءَهُ في كلِّ عـــامِ

و ينتقل إلى نفسه و حاله مع الفراش الذي اطَّرَحهُ حتى ملَّه، و هو الذي كان يفتقده و يشكو إليه وحدته حين
. يلاقيه، و قَلَّمَا كان يفعل. و كأنه حين يصف للطبيب ملازمته لفراشه يخبره بحالته السابقة ليتبيّن هولَ ما قد
.أصابه، و شتّان بين أمسه و يومه

قَليلٌ عائدِي سَقِمٌ فُؤادِي ●●● كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعبٌ مَرامِي

ثُمّ يقوم المتنبي ليجمع بين المتضادات، و يقابل المتناقضات، لِيَصُفَّهـا جميعاً صفًّا مُتراصاً يجعلها تنصاعُ لمنطقِ « الأنا »، فما قلَّ عائدوه إلاّ لصعوبة مرامه، و ما سَقِمَ فُؤاده إلاّ لكثرة حاسديه، و لك أن تعيد صياغة الترتيب بين السبب و المسبب ما استطعت إلى ذلك سبيلا… و ما كَمَدُ الحُسَّادِ شيئاً أرادهُ … و لكنَّه من يَــزحَمِ
…البحرَ يغرَقِ

عَليلُ الجِسمِ مُمتَنِعُ القِيامِ ●●● شَديدُ السُكرِ من غَيرِ المُدامِ

يعود بعدها ليُجمِلَ بعد تفصيل، و يوجز بعدا إطناب، فجسمه خارت قِواه فـامتنع عن القيام… و يُوفرُ الشاعرُ على طبيبه مغَبَّةَ التَّعالُم أن يظُنَّ أن ما أصابه هو من صنيع الرّاح، فهو الصَّخرُ الذي لا تُحَركهُ، هَذِي المُدامُ
…ولا تلك الأغاريــدُ

و زائِرَتي كأنَّ بِها حَياءاً ●●● فليسَ تَزورُ إلاّ في الظّلامِ

هنا يَلِجُ في صلب الموضوع ليحدث الطبيب عن زائرته الحَيِّــيَة التي ليست تزوره إلاّ في الظَّلامِ، تلك الزائرة
.التي أرَّقتهُ و أقضّت مضجعهُ و التي أغرت النُّقادَ من بعده فجعلتهم يلقون القول على عَواهِنِه

فمن « طه حسين » الذي جزم أنها حالة اكتئاب ألـمَّت بالمتنبي – و هو عاذره ألّا تراه عمياء – إلى « أحد المستشرقين » من أصحاب المذهب الظاهري، الذي جعل الزائرة حسناءًا طارقة، و أخذ يتأَوَلُ في الأبيات
.ليجعل القصيدة من شعر الغزل

و بين هذا و ذاك نجد أبا العلاء المَعَرِّي الذي يقول عن نفسه أنّه مصداق نبوة أبي الطيب بأن ينظر الأعمى
.إلى أدبه، فهو الشارح لمُعجِزِ أحمد، العارف بشأن زائرته

بَذَلتُ لهَا المطارِفَ و الحَشَايا ●●● فَعافَتها و باتَت في عِظامِي

و كعادة الفتى العربيّ، يبذُلُ المتنبي للضيف كلَّ نفيسٍ إكراماً له، إلاّ أن زائرته قد لا يَصدُقُ عليها قولهُ أنك إن أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ… و من غيرُ  » الحُمَّى » تعافُ المطارفَ و الحشَايا لتبيت في العظام، و للطبيب أن يتخيَّل
…ما يُحدثه زمهريرُ مقامُها من رجفةٍ و سَقَم

يَضِيقُ الجِلدُ عَن نَفسِي و عَنها ●●● فَتُــوسِعُهُ بأنواع السَّـــقامِ

…و تبلُغُ الحُمَّى بالعليل منتهى السَقم، تُوَسِّعُ به جلده الذي ضاقَ عنهُ و عنها

إذا مَــا فَارَقَتْنِي غسّـَلَتنِي ●●● كأنَّـــا عَاكِفانٍ عَلَى حَرَامِ

كأنَّ الصُبحَ يَطرُدُها فَتَجرِي ●●● مَدَامِعُها بِأربَعَةٍ سِجَــامِ

ثمَّ تأتي ساعةُ الخلاص، فبُزوغُ الفَجرِ مُؤذِنٌ برحيل الزَّائرة، و نور الصُّبح طَارِدٌ لــها، و لكنّ الظّعينة يَعِزُّ عليها قطعُ اعتكافها في العظام، فلا تفارقها إلاّ و قد جرت مدامِعُها… و يفيق المتنبي من هذه الحال و هو
.يتصبَّبُ عرَقاً، وكأنها ما انهمرت عَبَراتُها إلاَّ لتُغَسِّلَه، و للفقيه في تحديد حُكمِ ما عكفوا عليه لَطائفُ

أُرَاقِــبُ وَقتَهــا مِن غَيرِ شَــوقٍ ●●● مُراقَبةَ المَشُوقِ المُستَهامِ

وَ يصدُقُ وَعدُها و الصِّدقُ شرٌّ ●●● إذا ألقَاكَ في الكُرَبِ العِظامِ

و كحال من يَشُكُ في دوام سلامته و يخشى أن يباغته العدوُّ على حين غِرّة، يراقب المتنبي وقت قاتلته مراقبة المَشوقِ من غير شوق، و كأنهما افترقا على معاد، ليصدق وعدُها و تعاود زيارته لتَهيمَ به دون أن يَهِيمَ بها… و قد جعلته يرى الصدق شرّاً، فهو و إن أقرَّ بخيرية الصدق مُطلَقاً فإنَّه يُقَيدُ شرَّهُ بنسبية مآله حين ألقاه في
.الكُرَبِ العِظام

الآن و بعد اكتمال المشهد الملحمي الذي صوَّرهُ المريضُ حين قصَّ علينا أحواله مع  عِلَّته، نعود لنشرعَ في
.تحليل أعراضه تحليلاً علمياً

فالأعراض تُستَهلُ بالرجفة و الارتعاش الذي يناله حين يُحسُّ بالداء يجري في عظامه مجرى النُّخاع، ثُمَّ تبدأه الحُمَّى
لتشتدَّ وطأتُها حتى يضيق عنها الجلد، و ختامُ أعراضهِ حين يتصبَّب عرقاً يَعقُبهُ إحساسٌ بزوال الحمَّى. و هذا التّتابع في الأعراض على الترتيب نجدهُ في حُمّى الملاريا، أو ما يعرف قديما بــــ »حُمّى المستنقعات »، و هو مرَضٌ طُفَيلي
.ينتقل إلى الإنسان عن طريق بعوضة الـملاريا

.(fièvre en plateau) و يَمُرُ المريض بمرحلتين : الأولى تكون فيها درجة الحرارة ثابتة

.(Accès Palustres) و الثانية يشهد فيها المريض نَوباتٍ من الحمَّى

: تبدأ النوبة بانخفاضٍ في درجة الحرارة و يحسُّ المريض آنذاك ببردٍ شديد غالبا ما يسبب ارتجافاً يدفعُ
المريض إلى مضاعفة البطَّانيات، و تدوم هذه المرحلة لساعةٍ أو اثنتين. بعدها ترتفع درجة الحرارة بشكلٍ لافت، فقد تصِلُ الى 40 أو 41 درجةً مئوية، ما يجعل المريض يتخفَفُ من أغطيته، و تدوم هذه الفترة من ساعتين إلى أربع. و المرحلة الأخيرة يسيل عرق المريض فيها بوفرة ، يصاحب ذلك انخفاضٌ في درجة الحرارة و تَحَسُنٌ في الحالة العامة للمريض في غضون ساعةٍ تقريباً. و بحسب نوع المُسبب تتكرر هاته النوبات بفارق زمني
.منتظم فتكون إما ثلاثية أو رباعية  

.Plasmodium Knowelsi أو يومية كما في حال شاعرنا و هذا النوع عادة ما تسببه الطفيليات من نوع

.نتركُ الآن العلم الحديث لنعود إلى الشاعر و هو يتحوَّلُ بالخطاب هذه المرة إلى الحمَّى التي اعترته

أَبِنـتَ الدَّهرِ عِندِي كلُّ بنتٍ ●●● فَكَيفَ وصَلتِ أنتِ من الزِّحَامِ

يُخاطِبُها باستعلاءٍ، و يُسائلُها في تَعَجُبٍ كيف وصلت إليه من زِحَامِ النَّائِبات، و كأنَّ الدّهر الذي أثقل كاهله
…بالرزايا أبى إلّا أن يجعل من الحُمَّى قطرةً تُفيض الكأس، و قشةً تقصِمُ ظهرَ البعير

جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَم يَبقَ فِيهِ ●●● مَكانٌ للسُيوفِ و لَا السِّهامِ

 و يعترفُ لها و هو الذي رماه الدَّهرُ بالأرزاءِ حتّى، فؤادُهُ في غِشاءٍ من نِبالِ… أنها قد جرَّحتهُ و هو الذي لم يبق فيه مكانٌ يتَّسعُ لجُرح، فكانت الجراح فوق أنداب السيوف و السِّهام كتَحَطُمِ النِّصالِ على النِّصال ، وحال
…الجسم من حال الفؤاد بعد أن فارق الحبيب بلا وداعٍ… و ودّع البلاد بلا سلامٍ

يَقولُ ليَ الطَّبيبُ أكَلتَ شَيئاً ●●● و دَاؤُكَ في شَرَابِكَ و الطَّعامِ

يُخبرُنا المتنبي بخلاصةِ طبيبه بأن منتهى معارفه ردُّ الداء إلى شرابٍ أو طعام، ليشرَعَ في مناقشته في
: تشخيصه للمرض، فالمتنبي يرى نفسه – و هو الذي لا يرى إلّا نفسه- أعلم من الطبيب بدائه

وَ ما في طِبِهِ أنِّي جَوادٌ ●●● أضرَّ بجِسمِهِ طولُ الجَمَامِ

فطبُ الطَّبيب عارف بظواهر الأمور، قاصرٌ عن إدراكِ مَكنوناتِها، فهو لا يدرك حجم الضرر الذي يسببه
: الركود للمتنبي و هو الذي

تَعَوَّدَ أن يُغَبَّرَ فِي السَّرَايا ●●● و يَدخُلَ مِن قَتامٍ في قَتَامِ

فالمتنبي بحقّ قد تعود أن يسّل سيفه مع سيف الدولة حين كان في الشام مُرابِطاً على ثغورِ الأمة التي يؤمن بها
يخوض معه المعركة تِلوَ الأخرى ضدَّ رومِ الدُّمُستُق المتربّص بعرين الإسلام و العروبة. ثم هو قد وجد
: نفسه بعد ذلك

فأُمسِكَ لا يُطَالُ لهُ فيَرعَى ●●● وَ لا هو في العَليقِ وَ لا اللِّجامِ

و هنا يذكرنا بحاله في مصر كافور حيث الظُلمُ و القمعُ والاستبداد، و حيث لا شرعية للسلطة، وحيث وجد المتنبي نفسه محاصراً – و لطالما حاصر المُستَبٍدُ المُثَقفين و أصحاب الطُّموح – بين مطرقة نفسِهِ الأبيّة، و
.سندان الواقع المرير لأمته التي أصابها الوهن

فَإن أمرِض فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي ●●● وإن أُحمَم فما حُمَّ اعْتِزَامِي

و إن أَسْلَم فَما أبقَى و لَكِنْ ●●● سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ

هنا يعرضُ المتنبي فلسفته في النِّضال و الصراع الدائم، فهو يؤمن أن المرض إن اشتد لا يصيب اصطبارهُ و طموحه، أن عزمهُ ثابتُ في مُضِيِّهِ قُدُما. و كحال مرضه، فإن سلامته نسبية كذلك، فهو لا يقنع بالمعافاة، و لا يرضى بميسور عيشهِ، فهو يودُّ من الأيامِ ما لا تودُّه. و يريد من زمنه ذاك أن يُبَلِغَهُ، ما ليس يبلُغُه في نفسه
.الزّمنُ، فالحياة بالنسبة إليه مرهونة بالسير سعياً إلى الكمال و لا كمال

و لَم أرَ فِي عُيُوبِ النّاسِ عَيباً ●●● كَنَقصِ القَادِرينَ عَلى التّمَامِ

إنّنا إذا نظرنا إلى تعريف « أنطونيو غرامشي » للمثقف العضوي نجده لا يحصُرُه في المثقف المرتبط بالجماهير فحسب، فهو يرى أن الراغب في التغيير هو من كان صاحب مشروع إصلاح ثقافي و أخلاقي،
.يُمَكِنُ للفئة التي ينتمي إليها بصفة خاصة، و للإمكان التاريخي بصفة أعم

و إذا ما أردنا صياغة التعريف بمُصطلحات هي أقرب إلى ثقافتنا، فنقول أن المثقف العُضوي هو الذي يُحسُّ بآلام أُمّتِهِ و يَتَطَلَّعُ إلى آمالها،  و هو ما مثله المتنبي بحقّ، فقد كان شاعر الثورة قبل أن تكون الثورة، و شاعر
.القومية قبل أن تولد القومية، و قد جسّد فعلياً جدلية الصراع بين السلطة و المثقف

.و كأنه ينادي على شعراء البلاط و وُعّاظ السلاطين، و من جعلوا شعره جناية من الأدب على التّاريخ

مَلُومُكُما يَجِلُّ عَن المَلامِ ●●● وَ وَقعُ فَعَالِهِ فـوقَ الكَلَامِ

المراجع

ديوان المتنبي –شرح الواحدي-

-المتنبي أمة في رجل – خليل شرف الدين-

– الصائح المحكي ، صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث – د. خالد الكركي

– المتنبي ، رسالة في الطريق الى ثقافتنا – محمود شاكر-

– مُعجز أحمد – أبو العلاء المعرّي –

– قصيدة الحمى للمتنبي في ضوء التحليل النفسي – د.محمد بن علي درع-

– مع المتنبي –طه حسين –

– الظواهر الأسلوبية و دلالاتها في قصيدة الحمى للمتنبي – مجلة أبحاث ميسان 2014 د.خالد محمد صالح – – أبو
.الطيب المتنبي ، الطريق الى المجد – محمود محمد يوسف