تنوين » في كلية الطب »
بومحمد جمال الدين
بَعدَ انقِضاءِ صَباحِه الذي كان مُشابها لسابقيه في المستشفى الجامعي؛ أي بعد درسٍ يتلوه تَجوالٌ في أروقة المصلحة بين اقتفاءٍ لأثر الطبيب المقيم وتَبَسُّمٍ في وجوه المرضى وذويهم، قرّرَ أن يتوجه تلقاء مكتبة الجامعة لعلّه يُقلِّبُ بعض
.الصفحات قبل نهاية الأسبوع
دخل « الزّيانية * » على حين غفلة من أهلها، و مشى في ساحتها مُطأطئاً رأسه يرفعه من حين إلى حين ليصول بناظرَيه في ملامح رُوَّاد كلية الطبّ من الطّلبة، والطّالبات على وجه الخُصوص، فإذا به -وهو على تلك الحال- يلمحُ شيئاً بدا لوهلته مألوفاً، لكنّهُ حين أرجع البصر كرَّتَين وجد هناك قوماً كُتُبُهم بأيديهم؛ هناك، بين الجدار والعمود، رآهم
..جالسينَ على مدرّجاتٍ من الإسمنت، كانوا عشرين، أو يزيدون
وقف صاحبنا متأمّلا منظرهم الذي وجده غريباً على فُسَيفِساء ساحة الجامعة، غير أنه يزيدُها إذ ذاك رَونقا، تماماً كما
.كان هدوؤهم وهم يُمعِنون النّظر في أسفارهم، هدوء يعزف موسيقى تجعلُ لتلك الفوضى المعهودة إيقاعا ومعنى
مُتردِدًا في مشيه، اقترب من الجمع، ودون أن يثير انتباه أحد سأل فتاةً كانت في أقصى المجلس تُقلِّبُ كتاب الأيّام لطه حسين: « مَن هؤلاء؟! » فأجابته دون أن تبعد نظرها طويلا عمّا تقرأ: « تَنوين! ». وقبل أن يستجمِع صاحبنا شجاعته ليسألها جوابا مُفصّلاً عن « ما تنوين؟! » إذا بإحدى الجالسات تقوم من مقامها لتقِف قُبالة الجمع فتحيّيهم وترحّب بهم مُعلنةً بذلك انتهاء فقرة القراءة الصامتة و التي هدفها -حسبما قالت- تحقيق شعار تنوين أنّ: « الأرض كلها مكتبة و القارئ ليس غريبا »، « ومبادرة تنوين لمن يسألُ عنها -تضيف قائلة- هي مبادرة شبابِيّة تطوُّعِيّة انطلقت من جامعة بيرزيت في فلسطين سنة 2012 هدفُها الرئيس تعزيز ثقافةِ القراءة في المجتمع، وإحياء بيئة يجتمع فيها النّاس بالكتاب ويتحاور فيها القرّاء، وإذا كان التنوين في اللغة العربية يخلق حرفا جديدا في الكلمة من خلال اللفظ، فكذلك القراءة تخلق لنا حياة جديدة فوق حياتنا، و قد لاقت المبادرة نجاحا باهرا جعلها تنتشر في عديد البلدان العربية، وقبل أن نخوض في موضوع نقاشنا اليومَ عن دورِ الإعلام وعلاقته بالفكر نترك المجال لمن يريد أن يقوم بتقديم الكتاب
. »الذي هو بصدد مطالعته
في تلك الأحيان كان صاحبنا قد استوى جالسا على المدرّج، وبعد ما وجد ضالّته في كلام الفتاة مقدّمة الجلسة، قرّرَ أن
« .يُضَحّيَ ببعضِ « الخبيش ** » في سبيل مجالسة أهل « تنوين
كان أوّل من قام متحدثا في تلك الجلسة فتاةٌ ذات نظّارات، أرادت أن تقدّم قصّةً قصيرة للسَّهرَوَردِي بعنوان « الغُربَة الغَربيَّة » حذا فيها حذو ابن سينا حين كتب « حيّ بن يقظان » و « رِسالة الطَّير ». وفي هذه التّحفة الأدبيّة التي مطلعها: « لَمَّا سَافَرتُ مَعَ أخِي عاصِمٍ مِن بِلادِ ما وَراءَ النَّهرِ إلى بِلادِ القَيْرَوانْ وَقَعنَا فِي القَريةِ الظّالِمِ أهلُها… » يريد فيلسوف الإشراق الأكبر من خلالها أن يُثبت أنّ الإنسان بفطرته قادرٌ على إدراك حقائق الكون الكبرى إن هو تحرَّرَ من شَهَواتِه و غَلَبَ نَزَواتِه، فقاطعها أحد الحاضرين قائلا إنّ ذلك لا يستقيمُ بحال، ولا يستطيع المَرءُ الاستدلالَ بمثل هذه القصص على ذلك، أضف إلى ذلك أنّ قِصّة « حي بن يقظان » وما شاكلها، تراثٌ اسكندريٌّ قديم، و ابن سينا نفسه
:-وهو أول من كتب في هذا النوع من الأدب- يقول في قصيدته المزدوجة
وَفِطرَةُ الانْسَانِ غَيرُ كافِيَة * فِي أن يَنَالَ الحَقَّ كَالعَلانِية
لا بُدَّ في تَحْصِيلِهِ مِن آلَة * واقِيَةِ الفِكرِ عَن الضَّلالَة
وهَذِهِ الآلَةُ عِلمُ المَنطِقِ * مِنهُ إلى جُلِّ العُلومِ يَرتَقِي
فصاحت إحدى الحاضرات: « مَن تَمَنطَقَ فقد تَزَندَق! » وراح الاثنان يتجادلان، وبعد مدٍ وَجزرٍ وأخذ ورد عن حُكمِ الشَّرعِ في المنطق، قام ثالثٌ ليخبرهم أنّ عالمِاً جزائريا هو عبدُ الرّحمَٰـن بن الصَّغيرِ الأخْضَري، قد حسم هذا الجدال
:حيث قال في سُلَّمِهِ المُرَوْنَق
وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاِشتِغالِ * بِهِ عَلَى ثَلاثَةٍ أقوَالِ
فَابْنُ الصَّلاحِ والنَّواوِي حَرَّمَا * وَقَالَ قَومٌ يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَا
وَالقَولَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحيحَه * جَوَازُهُ لِكامِلِ القَرِيحَه
مُمَارِسِ السُنَّةِ وَ الكِتابِ *ل ِيَهتَدِي بِهِ إلى الصَّوَابِ
أما الكتاب الثاني الذي تمّ عرضُه فهو « سؤال الأخلاق » لطه عبد الرحمن، يحاول فيه أن يُبَيِّنَ أنَّ الصّفة المركزيّة في تعريف الإنسان هي الأخلاقية، وأنّها سابقةٌ على العقلانية، وكُنْهُ النّقد الذي يوجّهُه الفيلسوف المغربي لهذه الأخيرة هو أنّ مفهومها المتداول اليوم يعرفها كونها عقلانية أداتية أي تسعى لجلب المصلحة بمعناها المادي المتوحِّش، ويقول في هذا الصّدد إنّها ما دامت تقيس الأفعال بمعيار المصلحة فقط فهي لا ترتفع بالإنسان عن البهيميّة كون الحيوانات كذلك تنحو هذا النحو محكومةً بغريزتها، و ما تفتأُ عقلانية كهاته أن تسعى للسّيطرة على الإنسان بعد السّيطرةِ على الطّبيعة، أما الإنسانُ -يقول طه- فعليه أن يأتيَ بالشّيءِ الحسن لكونه حسناً في ذاته وجوهره، لا في مآله فحسب، وقبل أن يستفيض المتحدّث في نظرية طه عبد الرحمن القائمة على ربط الأخلاق بالدين، قام أحدٌ كان يجلس في أقصى اليسار، ورفع يده اليسرى ليقول بوجهة نظرٍ يساريّة وبلغةٍ تُكتَب من اليسار إلى اليمين ما مفاده؛ إنّ الأخلاق مجرد مفهوم فوق بنيوي مفاصل للواقع المحسوس، وهو نتاج عن التّمركز حول المِلكية الفردية التي ظهرت عَقِب المجتمع الزِّراعي، وهي حيلة يُوَظّفُها الأرستقراطيون لتزهيد الطبقة الكادحة في الثورة. نعم! الثورة هي الحل! على عُمّال العالم أن يتّحِدوا لكسر الطبقة الظالمة… وراح على عادة أهل اليسار يحاول أن يصنع واقعا لأيديولوجيته ويفسر العالم حسبها، وفي لحظة انفعال منه صاح: « إنّ الدّين أفيون الشعوب! » وغيرُ جديرٍ بالذّكر أنّ كلمةً كهاته أحدثت بلبلة في
…الجَمع ليس المقام لذكرِ حيثيّاتها
بعدها تمّ عرضُ كتاب « وجهة العالم الإسلامي » لمالك بن نبي، وما ذكر فيه من نقدٍ لاتّجاهات الإصلاح عند المسلمين، وعن ضرورةِ تجديد الفكر الديني، ولأنّ مالك مهندس كهربائي في الأصل، كان النّقاش يدورُ حولَ أهلِيّتِه للتّنظير في علمِ الاجتماع وفي الحضارة، باعتبارهما ليسا من تخصصه، فمِن قائلٍ إنّ صاحب الثّقافة الطّبِيّة لن يكون طبيباً مؤهّلا للعلاج بأية حال من الأحوال وأنّ من تكلّم في غيرِ فنّه أتى بالعجائب، إلى آخر يجعل الشهادة الجامعية من قبيل شهادة الزّور. كيف لا والطّالبُ الجامعيُّ يدرسُ في المقرّر عليه بعض العلم، ليُصَيِّره الأستاذ بعد ذلك في درسه إلى المعتصر من المختصر، ثم يُمتحن على بعض ذلك فقط، والأنكى من ذلك أنّه مطالبٌ فقط بتحصيل نصف العلامة، ليكون بمعدّله ذاك مستحقّا لشهادةٍ قد تعطيه اسم المتخصِّص وأحقيّة الكلام، مستشهدا لذلك بخرّيجي الجامعات الجزائرية وبحالتها المزرية. ولأنّ الموضوع نزل من عالَم الأفكار إلى عالم الأشخاص -حسب تعبير مالك نفسه-
.آثَرت منشّطة الجلسة أن تضع حداً للجدال هنا، على أن تكون للموضوع جلسة قادمة
أثناء كل ذلك كان صاحبنا يُصغي بانتباهٍ إلى كلِّ ما قيل، وكلِّ ما سيقالُ عن « مائة عام من العزلة » لغابرييل غارسيا ماركيز، وعن مذكرات الشاذلي بن جديد، وقصائد محمود درويش، ومناظرات الباقلاني، والعقد الاجتماعي لجون جاك روسو، وسيتعجّب كما تعجّب كل الحاضرين من ذاكَ الذي قام وقد كان يبدو غريبَ الأطوارِ، ليسأل الحضور: من منكم قرأ رواية « كرّاف الخطايا »؟ ليعيد سؤاله حين رآهم يتبادلون نظرات الاستغراب من العنوان: من منكم قرأ « كرّاف الخطايا »؟! وحين لم يجبه أحدٌ قال بنبرة الغاضب المتحسِّر: اللعنة عليكم ما لم تقرؤوا كرّاف الخطايا! ثم عاد
.إلى مكانِه
لقد راودت صاحبنا في أحايينَ كثيرةً رغبةٌ في الكلام والمشاركة، إلاّ أنّه بقيَ طوال الجلسة صامتا ولم ينطق ببنت شفة، ربّما خجلا، أو ترددا، رغم أنه كان لديه الكثير ليقوله، فقد أراد -على سبيل المثال لا الحصر- أن يحدّثهم حين ناقشوا دورَ الإعلامَ عن كتب نعوم تشومسكي و هيربرت شيلر، وغيرهم ممن كتبوا حول الإعلام الذي صار سلاحا خطيرا، كونه هو من يصنعُ وعي الناس ومواقفَهم تُجاه الأحداث، فهو الذي يختار من الأخبار ما يكونُ رئيسيا ويُكتَب بالبنط العريض، و ما يكون دون ذلك هامشيا، وهو الذي يسلّط الضوء على زوايا دون أخرى فيتكوّنُ بذلك الرأيُ العامُّ عن إحاطةٍ ناقصة أو مشوّهة بالموضوع وملابساته، أضف إلى ذلك أنّ الإعلام اليوم صار متحرّرا من كل ضابط أخلاقيٍّ ولم يعد خاضعا إلاّ لمنطق السوق، يصنعُ به رجال المال و السياسة الوهم، ومن الأمثلة التي أوردها الحاضرون عدد الأفلام التي سوِّقت لغزو العراق و فضيحة كامبردج اناليتيكا التي لعِبت بالوعاء الانتخابيِّ في أمريكا
.وسارت به ذات اليمين وذات الشمال
انقضى وقت الجلسةِ و النّقاشُ كان لايزال محتدِما، وأمّا صاحبنا فلم يندم على ما فاته من تراتيلِ الدّروس في المكتبةِ، فقد كان يرى أن حلقات القراءة على شاكلة تنوين، تعتبر من أهمّ ما شهِدته السّاحة الثقافية العربية منذ نصفِ قرنٍ، وهي السّبيلُ الوحيد لتحريك مياه الوعي الرّاكدة، فهي النّواة التي ينطلق منها الحوار، وهو لبنة البناء الحضاري إذا ما أُضيف إلى المعرفة التي تعتبرُ مرتكز العمل الإصلاحي، ولم يَجنِ على أمّتِنا مثلُ طاقاتها المعطلة وجهودها المتناثرة، فكان عمل المصلحين قاصرا لأنّ تفسيرهم كان جزئيا مقتصرا على مجالٍ دون غيره، فما كان أحوجنا إلى مثل هذه الحلقات التي تفعِّل شبكة الروابط الاجتماعية ليسير المجتمع نحو هدفه كُلّاً مُتكاملاً، فنتجنّب بذلك شتاتنا المعرفيَّ
.والاجتماعيَّ الذي تركنا نسير خبط عشواء
.الزيانية : اسم كلية الطب بالجزائر العاصمة *
.الخبيش : مصطلح دارج في الجامعة الجزائرية يفيد الانكباب على مراجعة الدروس **