القادمون من الخلف
يوسف ازرارن
.تمّ تكديسنا في مجموعة واحدة، ننتظر قدوم الرجل ذو السترة الصفراء حاملا المسدس كي يطلق النار
كان عددنا يتجاوز الثلاثمائة شخص، حُشرنا في مكان ضيّق، نرتدي ملابس تكشف من جسمنا أكثر مما تستر، ليس لحرارة الجو دخل فيما كنا نرتدي، بالعكس فقد كنا في شهر جانفي وزمهرير الشتاء كان في عِزّه، إستقبلنا في
.الصبيحة بريحٍ بارد ليكشف غضبه منا
خوف وصمت رهيب كانا يعمّان المكان. كيف لا والكل يرتجف موجها نظره صوب فوهة المسدس. كنت مراهقا حينها لا أفقه الكثير في هذه الحياة (وكأنني اليوم أفعل)، كل ما تغير أني لم أعد أصدق مقولة « المال لا يصنع السعادة » أو « كي تجيب الباك ترتاح ». في تلك اللحظة الرهيبة رحت ألعن في قرارات نفسي كل ما أدّى بي إلى ذلك المكان، وما عساه يلعن حينها مراهق في مثل سنّي؟ ألعن جرس هاتفي الذي أيقظني لأعيش يوما كهذا، الحليب الساخن الذي شربته في الفطور على عجل فأحرق لساني، سائق الحافلة الذي كان يثرثر نكتا مملة طول الطريق، ومعلمة الرياضيات التي لم تُعطنِي البارحة علامة العشرين في الإختبار بسبب مساعدتي لزميلي « عبد القادر » في الحصول على العشرة، عبد القادر أو « كادار » مثلما نناديه، كان سيُطرد من المدرسة لو لم يحصل على العشرة، قال بأنه لا يريد
…ذلك، لأنه سيجد نفسه مجبرا على أن يصحب والده للتجارة في الحديد والمعادن الرخيصة
بين تلك الكتل الهائلة من الأجسام البشرية المتكدسة، أحاول بعيني أن أحدّق في المسدس منتظرا صوت الرصاص، غفلت عنه للحظة، ويا ليتني لم أفعل، فهمت حينها ما كان يقصد مدربي حين قال « ناقصاتك الخبرة يا جوزيف ». في الثانية التي سهوت فيها تم إطلاق النار، في تلك الثانية تدفّق الجمع وتشتتنا هاربين، سقط البعض أرضا ومُرّغت أوجههم في التراب، أردت أن أعتذر للشاب الذي دُستُ يده عن غير قصد حين سقط أرضا لكني لم أقدر (إن كنت تقرأ هذا النص فأنا أتوجه لك باعتذار رسمي) « الله غالب خويا » لو توقفتُ حينها لوجدتُ نفس مصيرك. كنا في فصل
.جانفي من سنة ألفين وإحدى عشر، وكان ذلك السباق الوطني لرياضة العدو
كي أصدقكم القول، لم تكن تلك الرياضة تستهويني كثيرا، ولا يُمكنني أن أكون بارعا في شيء لا أهواه. لكن بطريقة أو بأخرى، وجدت نفسي عداءً في ذلك السباق، ومن بين مئات المتسابقين، ترتيبي يومها كان يشبه لحد بعيد رقم هاتفي. كانت المسافة التي ينبغي علينا قطعها تتراوح بين الأربعة والخمسة كيلومترات، وكان المضمار دائريا كبيرا يخترق الغابات والحقول. حاولت تجاوز ما أقدر عليه من المتسابقين رغم أن عددهم يقدّر بالمئات. كان هناك مشهد يتكرر عليَّ كثيرا في السباق، ما إن أُحاول أن أتجاوز متسابقا منهكا في الطريق، حتى أراه يزيد من سرعته رافضا الإستسلام، يحاول أن يلتصق بي ويصر على ذلك بالرغم من أنه منهك، ثم لا يلبث أن يقطع الأمل وأسمعه خلفي
:يلهث وخطاه تتثاقل رويدا رويدا. كان قد أخبرني مدربي بذلك
.إذا أردت أن تتجاوز متسابقا، فعليك أن تتجاوز حدوده –
أتجاوز حدوده؟ –
إ- إذا وصلت إليه، فضاعف سرعتك وحافظ عليها لمئة متر، سيحاول الإلتصاق بك في الأمتار الأولى ثم لا يلبث أن يُخفض من سرعته، لو خفضت من سرعتك بعدها مباشرة فسوف يتشجع ويسترجع ثقته في نفسه ويعيد الكرّة حتى
.يتجاوزك. إبتعد عنه بالقدر الذي يجعله يستسلم ويرى بأن تجاوزك ضرب من المستحيل
فهمت حينها بأن الإنسان يحسد أخاه الذي بجنبه ومن نفس مستواه، لكنه لا يطمع فيما عند الإنسان الذي تجاوزه بأشواط. فالتاجر البسيط مثلا لا ينام له جفن حين يحقق جاره أرباحا مهمة خلال اليوم، لكن لا يهمه إن حققت أديداس
.أو نايك مبيعات خيالية، فهي تتجاوز حدوده بكثير ولن يفكر حتى في مجاراتها
كنت على وشك إكمال الدورة الأولى حين تجاوزني أحد المتسابقين بهمّة عالية. رحت أتأمّل فيه ساخرا، لماذا قرّر أن يزيد من سرعته الآن في هذا الوقت المتأخر؟ أما كان له بأن يرضى بموقعه في الخلف؟ حتى وإن تجاوزني الآن فلن يفوز بالسباق على أية حال. عندما استدرت في بداية الدورة الثانية، أخذ ذلك المتسابق في التوجه نحو خط النهاية، وراح الجميع يصفق ويهلل له، إعتقدت لوهلة بأنه أخطأ الطريق، سيعيده المنظمون للسباق من دون شك! إستغرقني الأمر لحظات كي أكتشف بأنه صاحب المرتبة الأولى والفائز بالسباق، أكمل الدورة الأولى بسرعة، وها هو الآن يكمل الثانية ويبلغ خطّ الوصول. كنت أحسب بأنني قبله، وللحظة ظننتني عداءً أفضل منه، لكن إتضح بأنه قد تجاوزني بدورة كاملة. رُحت أسأل نفسي اليوم حين تذكرت تلك الحادثة، كم من إنسان ننظر اليه بعين الإحتقار ونحسب بأننا أفضل منه، وبأننا نتجاوزه، وبأننا نسبقه لمجرد أننا نراه دائما خلفنا في مضمار الحياة؟ هل من الممكن أن ذلك « القادم من الخلف »، تجاوزنا في الحقيقة كلنا… بدورة كاملة؟
المهم أنني أكملت السباق بالرغم من أن ترتيبي كان يشبه رقم هاتفي. وجدت مدربي في خط النهاية يقول « قوتلك ناقصاتك الخبرة يا جوزيف ». الفائز تم إعطاؤه جائزة معنوية تتمثل في بعض الأواني الزجاجية، واستُدعي للفريق الوطني بعدها. أما أنا فعُدتُ أدراجي بخفّي حُنين أروي ما عشته لصديقي « كادار » الذي تم طرده من المدرسة. بعدها بأشهر، سمعت بأنه إلتحق بمحل لبيع المأكولات السريعة في شارع المدينة. أما أنا، فأيقنت أن المال لا يصنع السعادة بل هو من مرادفاتها، جبت الباك ومازال ما ريحتش. وإذا ما بلغت الجامعة متأخرا وعاتبني صديقي أجبته « إحذر من
« .القادمين من الخلف