كيف عرّف أفلاطون التفكير الفلسفي
بومحمد جمال الدين
إن عصرنا الحالي الذي يزعم تسهيل حصول الأفراد على المعلومة هو نفسه العصر الذي يسهل وصول «المعلومة الخطأ!» إلى الأفراد، قد يكون الخطأ جهلا أتاحت له التقنية الحديثة وفلسفتها منبرا للكلام، كما قد يكون تجهيلا متعمدا باعتبار المعرفة قوة من مصلحة المستكبر أن يُحرم منها المستضعفون، كما قد يكون استحمارا أو إلهاءً أو زرعا لفتنة… وكما أن عملية التعلم بما يسبقها من بحث وما تنشده من بناء معرفي أضحت من ضرورات العصر ومستلزماته، فإن عملية تمحيص الخطاب العلمي فضلا عن الإعلامي لا تتم من غير التوسل بحس نقدي يعين على تلمّس الصواب واستشفاف الدليل… قد عُرف عن الفلاسفة منذ القدم باعتبارهم محبي الحكمة حب الحقيقة والتطلع إلى جوهرها رافضين التسليم بالآراء السائدة والأحكام المسبقة، بإمكاننا القول إن تفكيرهم الفلسفي كان تمثلا وصورة من صور الحس النقدي… أما في عصرنا فإن السيولة –بتعبير زيجمونت باومان- قد طالت الفلسفة وما كانت تنشده، فلم تعد الحقيقة مبتغى ومطلبا، إذ يكفينا حسب اقتراح أهل «ما بعد الحداثة» أن نكفر بكل حقيقة وأن نشك في كل شيء، ونعيد تعريف كل شيء للخلوص إلى اللاشيء وإلى العبث المتدثر بدثار التفكير الفلسفي، ولأن الإنسان دائم الرجوع إلى الماضي الذي طالما اعتُبرَ مرآة للذات وللمستقبل، فإنّ عودة إلى تراث الإغريق نتتبع فيها ملامح التفكير الفلسفي قد تكون محاولة جديرة بالاهتمام…
بسم الله الرحمن الرحيم
يُعدُ أفلاطون أحد أكثر الفلاسفة تأثيرا وانتشاراً على مرِّ التّاريخ، ويُعتبر كتاب «الجمهورية» من أهم المتون المعبِّرة عن فكره وفلسفته. ومحاولة تتبع ماهية وخصائص التفكير الفلسفي من خلال كتاب الجمهورية يكون من منطلقين، أولهُما؛ كَونُ الفلسفة شكلّت موضوع بحثٍ شغل حيزاً كبيراً من متن المحاورة، والمنطلق الآخر هو أن التفكير الفلسفي يُمارس على لسان سقراط على طول صفحات الكتاب.
«يحرص المتن الأفلاطوني –عموما- على تقديم الفلسفة –محبة الحكمة- في سياق السلب والجدل… ويعرفها بالمقابلة والمخالفة مع محبة المال أو الجاه، أو الجسد، أو اللذة… بمعنى أن الفلسفة نمط حياة مخالف لهذه المعاني التي يختزل فيها البعض غاية وجودهم وحياتهم…»1 وفي «الجمهورية» تأكيد متكرر على كون الفلسفة نشاطا روحيا يبتغي
الحكمة والمعرفة لذاتها، فالفلسفة –عند أفلاطون- تتجاوز المعنى الابستمولوجي؛ كآلية في التفكير والنظر، إلى كونها أسلوباً في العيش، فهي بذلك مقترنة بالمسؤولية الأخلاقية التي توجب على الفيلسوف الحق أن يكون مترفعاً عن الشهوات الجسدية وعن الطمع في المال، إضافة لكونه مُحبّاً للصدق محبة حقيقية ينشده في الحكمة كما يتخلَّقُ به في الممارسة.
جاءت «الجمهورية» كأغلب كتب أفلاطون على شكل الحوار، يمكننا القول أن أفلاطون يستعمل أسلوب الحوار لأنه يتيح له صياغة المسائل الفلسفية بحبكة درامية تمكنه من استهداف جمهور أكبر، كما يمكننا افتراض استعماله لهذا الأسلوب كأداة يستميل بها قراءه إلى الاقتناع بفكرة ما، خاصة بعدما ينجح في توليد شعور بالحيرة لديهم إزاء ذلك الموضوع.
من جهة أخرى «يسمح قالب الحوار باهتمام أفلاطون الشديد بالأسئلة التربوية (كيف يمكننا التعلم؟ ما هي أفضل طريقة للتعلم؟ من أي نوع من الناس يمكننا التعلم؟ ما حالُ الشخص الذي يمكنه القيام بالتعليم؟) التي يمكن متابعتها، ليس فقط في مضمون مؤلفاته، بل أيضا في الشكل الذي صيغت فيه»2 وعليه يكون الحوار شرطا من شروط التفكير الفلسفي.
يبدأ الحوار في متن الجمهورية بتساؤل سقراط عن معنى المفاهيم المستعملة: «ماذا تفهم بالعدالة؟» في محاولة لتدقيق التعريف، بعد ذلك يرفض التسليم بالجواب الذي تقدمه الثقافة السائدة ويبدأ في محاولة نقده باستعمال أسلوب السخرية غير المباشرة حرصا على الحفاظ على حالة نفسية تمكن المتلقي من ممارسة الشك وتقبل الحقيقة، بالنسبة لسقراط تقوم الفلسفة على مبدأ «اعرف نفسك» وسبيل ذلك يبدأ بمساءلة رغباتنا والشك في المعارف والأحكام المسبقة، يكون ذلك بعدم التوقف عند الظواهر الكثيرة التي ينحصر وجودها في دائرة التصورات، فيتخطاها ليفهم طبائع الأشياء على ما هي عليه، فالتفكير الفلسفي يقوم على التجريد؛ أي الصعود من تعدد الأمثلة إلى وحدانية الفكرة، ومن تعدد الوقائع إلى وحدة السبب، أو باختصار من الرأي المسبق إلى العلم الحق.
من أجل ذلك «يفتش سقراط عن تحديد الصفات الأساسية التي توجد في جميع الأمثلة متجاوزاً بذلك تلمُسات الرجل العامي في الاقتضاء الفلسفي»3 ففي مبحث شروط نشأة المدينة الفاضلة مثلاً لا يجنح سقراط إلى نشوء مدينة معينة والعودة إلى تاريخها، بل يواجه بالتحليل شروط تَشَكُّل المجتمع بصورة تجريدية. كما يسعى دوما إلى تقريب المعاني من خلال ضرب الأمثلة بهدف القياس عليها، ويكون القياس إذ ذاك قياسا على الذات وقياسا على المثال نفسه؛ يقول سقراط –بعد إثبات أن الخيل إذا ضُرَّت صارت أردأ باعتبارها خيلاً-: « أفلا تقول بحكم القياس يا صديقي أن النّاس إذا ضُرُّوا صاروا أردأ إنسانياً؟» ثم يجعل هذا التسليم منطلقا آخر في تحديد خصائص العدالة. وفي هذا تأكيد على «كون الفلسفة –عند أفلاطون- ممارسة جدلية تبتغي إيصال الفكر إلى عالم المُثُل المفارق لعالمنا المادي.»4
الأصل في التفكير الفلسفي أهليةٌ فطرية، لكن هذا الشرط بالنسبة لسقراط ورغم كونه ضرورياً إلا أنه غير كاف، إذ لابُدّ من تهيئة نفسية وخُلقية يحصل بها التهذيب الذي يجعل المرء قادراً على ممارسة الفلسفة الحقّة والترفع عمّا ينافيها، إضافة إلى ذلك يكون التدرج في العلوم التي تمكن من اجتذاب الإدراك من الحسيّات إلى اليقينيات، وهي علم الحساب والهندسة والفلك ثم في مرحلة لاحقة علم المنطق كوسيلة لفهم الحقيقة، يسمح ذلك التدرج بتدريب العقل على ممارسة الجدل؛ أي استخدام الأشكال المحسوسة للعبور من خلالها إلى المعاني المطلقة، فموضوع الدراسة ليس المربع المرسوم، ولكن المربع المطلق الذي يعتبر حقيقة مجردة يدركها الفكر.
بالنسبة لسقراط يوجد عالمان: العالم المنظور الذي تدركه الحواس، وفيه الموضوعات؛ أي الأشياء المادية سواء كانت أحياء أو جمادات، والصور التي تعتبر انعكاسا لهذه الموضوعات، ولكن لا يمكننا الاقتصار على المعرفة التي يقدمها لنا هذا العالم كونها قاصرة عن إدراك كنه الأشياء، يقول سقراط: «أعني أن محبي النظر والسمع يُعجبون بالجميل من الأصوات والأشكال والصور، وكل ما دخلت في تركيبه هذه الأشياء من منتوجات الفن. ولكن فهمهم يقصر عن إدراك كنه الجمال واعتناقه.» وعليه وجب التمييز بين الحقيقة والتصور، هذا التمييز سيمكن الفيلسوف من إدراك كنه الأشياء، لكن هذه المعرفة ليست ممكنة انطلاقا من العالم المنظور، وعليه وجب الترقي إلى «عالم المُثُل» بلغة أفلاطون، وهذا العالم العقلي تتناوله البصيرة، وفيه نوعان من المعرفة: الأولى هي المعرفة المحصلة بواسطة المقدمات، وعليها تبنى النتائج كافة، وقد يُتوسَّلُ فيها بالعلوم –مثل الهندسة- في سبيل إيضاحها. والنوع الثاني؛ هي المعرفة التي ليس في أبحاثها أشياء مادية، بل تقتصر على الصور الجوهرية التي تعالج الفروض للتوصل إلى مبدأ أولي مطلق نستخرج منه نتائج صحيحة.
من أجل الوصول إلى هذه الحقيقة المطلقة يسلك سقراط مسلكا منهجياً يقوم فيه بافتراض الردود الممكنة على الرأي، ثم يمتحن تماسكها المنطقي ليكشف عن وجه المغالطة فيها. فقد ورد في الجمهورية على لسانه: «… وإذا قال الخصم، موغلاً في المداعبة، في قالب لطيف: إنّ الدّوامات تكون ساكنة ومتحركة معاً حين يدور أعلاها، ورأسها مستقر في موضع خاص لا يبرحه، أو أن أي شيء آخر يدور في نفس المكان، فهو ساكن ومتحرك معاً، فلا تقبل هذه الأقاويل، لأن تلك الأشياء ليست ساكنة ومتحركة في وقت واحد، باعتبار واحد. ردنا على الخصم هو أن لها محوراً ومحيطاً. فهي ساكنة باعتبار المحور، دائرة باعتبار المحيط…»، نستخلص مما ذكر أن المنهج المعتمد يقوم على التدقيق في بحث انطباق الألفاظ على المعاني، وذلك بتوحيد المرجع المعتبر في إطلاق الوصف أو الحكم، -الزمان والمكان في حالة المثال السابق- حتى إذا تم ذلك أدركنا استحالة اجتماع النقيضين، وبالقياس على ذلك يضيف: « إنه في كل الحدود النسبية إذا كان الحد الأول مقيداً كان الثاني مقيداً، وإذا كان الأول مطلقاً كان الثاني مطلقاً» وكما سبق الذكر فإن الانطلاق من المحسوسات غايته استصحاب هذه القواعد المنهجية للعبور إلى القضايا العقلية ذات المعاني المطلقة.
يؤكد كتاب الجمهورية على ضرورة أن يهتم الفكر الفلسفي بالمـثال (الطوباوي)، ولا ينقص من اعتباره تعذُّرُ تحقق المثال في الواقع، لكن لا يُفهم من ذلك أن الفيلسوف معزول عن الواقع، فوظيفة الفيلسوف اجتماعية وتعليمية بالأساس، وهي مرتبطة بالمسؤولية الأخلاقية التي توجب عليه الانخراط والفاعلية، وحول هذا الدور الذي ينشد التهذيب ويدفع الجهل يرسم سقراط مثاله الشهير المعروف بــ «استعارة الكهف» التي يفترض فيها وجود طائفة من الناس تعيش في كهف سفلي مستطيل، يدخله النور من باب في طوله، وقد سُجن فيه أولئك القوم منذ نعومة أظافرهم، وقد اضطرتهم السلاسل التي في أعناقهم وأرجلهم إلى الجمود والنظر إلى الأمام فقط، وراءهم نارٌ ملتهبة بينهم وبينها دكة عليها جدار منخفض، ويفترض أيضاً أن هنالك أناساً يمشون وراء ذلك الجدار حاملين تماثيل بشرية وحيوانية مرفوعة فوق الجدار، بعض المارة يتكلمون وبعضهم صامت… من الطبيعي أن هؤلاء السجناء لن يروا شيئا سوى الظلال التي يحدثها اللهيب وراءهم، وسينسبون ما يسمعون من أصوات إلى تلك الظلال إذ أنها اليقينيات الوحيدة بالنسبة لديهم وما يصطلحون عليه من أسماء فإنهم سيعودون به على تلك الظلال لا على غيرها …
هكذا يشبه سقراط المعرفة العامية، وأحكامنا الأولية المسبقة على الأشياء كوننا ندرك ظواهرها فقط، أي ما يقع تحت حيز ملاحظتنا الضيق، ثم يحاول سقراط تقريب صورة الفيلسوف ودوره حين يفترض أن أحدهم حُلَّت أغلاله ونهض واقفاً على قدميه وتمكن من الالتفات إلى الوراء والسير بعينين مفتوحتين في جهة النّور، الذي سيبهر بصره فيصير عاجزا عن إدراك حقيقة الأشياء بعد ما ألِفَ صورة الظلال، وهكذا فإنه سيقترب من الحقيقة شيئاً فشيئًا إلى حين إدراكه أن سابق علمه لم يكن سوى أشباح لحقائق وموجودات هي الآن ماثلة أمامه، فيلاحظها ويستنتج ما بينها من تباين ماهَوِيّ وعلاقات سببية. يُشَبِّهُ سقراط ذلك الألم الذي يصيب العين جراء تحولها من العتمة إلى النور، بصعوبة الخطوة الأولى في التفكير الفلسفي وهي حين يحاول الفيلسوف ممارسة «قطيعة ابستمولوجية» مع الحس المشترك أو النظر الساذج الذي يشكل المعرفة السائدة، فالنور الذي أوضح للعين الرؤية هو بالقياس منهج التفلسف الذي يمكن الناظر من ممارسة التفكير الجدلي ارتقاءً من الجهل الذي تمثله عتمة الكهف إلى العالم العقلي. وبافتراض عودة ذلك الإنسان ثانية إلى الكهف واستعادة مقره السابق بغية إرشاد قومه السابقين إلى حقيقة تلك الظلال، فإن عينيه بلا شكّ سيغشاها الظلام لانتقالها فجأةً من نور الشمس الساطع إلى ظلمات الكهف، وهو ما سيجعل ذلك الإنسان عاجزا عن التدقيق في تلك الأشباح المنعكسة فيصير بذلك موضع سخرية لأصحاب الأغلال إذ يزعمون أنه صعد سليم النظر وعاد عليله، وبالتالي سيرفضون أية محاولة لفك تلك القيود، وهنا يظهر الوجه الآخر من صعوبة التفلسف؛ وهو المتمثل في نقد التصورات المسبقة لدى العامة، وحملهم على التفكير بشك منهجي، في سبيل إدراك الحقيقة. وبذكر آفات الانتقال المفاجئ بوجهيه، تتبين ضرورة التأهيل والتهذيب الذي نصَّ عليه سقراط.
ختاماً
إن الانفتاح الدلالي والثراء المفاهيمي والإشكالي لنص «الجمهورية» يجعل من الصعب الإحاطة بقضية من القضايا التي عالجها فضلاً عن عديدها، كما يصعب الإمساك بخصائصه شكلاً أو مضموناً ناهيك عن التفكير الفلسفي الذي يعتبر الروح الناظمة لبنيانها. لكن محاولة استقراء متن «الجمهورية» جعلتنا نخرج بخلاصات عن التفكير الفلسفي؛ أهمها أنه مشروط بالمحاججة والحوار باعتبار غايته التعليمية، كما أنه مشروط بالمسؤولية الأخلاقية في مراعاة الصدق والترفع عن الماديات تمثُلاً للمعنى الشامل للفلسفة بوصفها نمط حياة، كما نتبين أيضا سُبُل التهذيب والتوجيه، وصعوبة الممارسة الواقعية للفلسفة اكتساباً وتطبيقاً وتعليماً. كما يجب التنبيه على ضرورة وضع النص الأفلاطوني في سياقه الزماني والمكاني، وعلى ضرورة مسايرة الدرس الفلسفي والتعليقات المعاصرة على متن الجمهورية، والتي وإن حملت نقداً لتصوراتها وأسسها، إلّا أنها تُقِرُّ براهنيتها على العديد من الأصعدة.
(1) في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة. د. الطيب بوعزة –مركز نماء للبحوث والدراسات-. ص35.
(2) Kraut, Richard, «Plato», The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.)
(3) الدروس الأولى في الفلسفة. فريديريك لوبيز. ترجمة: علي بوملحم –المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ص9
(4) في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة. د. الطيب بوعزة –مركز نماء للبحوث والدراسات-ص45
المراجع
– في دلالة الفلسفة و سؤال النشأة. الطيب بوعزة . مركز نماء للبحوث و الدراسات 2021
– الدروس الأولى في الفلسفة. فريديريك لوبيز. ترجمة:علي بوملحم –المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر
– قصة الفلسفة. ويل ديورانت
– Kraut, Richard, «Plato», The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.)
المصادر
– جمهورية أفلاطون. ترجمة: حنَّا خبَّاز. دار القلم-بيروت-.