دلائل الإعجاز – عبد القاهر الجرجاني

نوري هاجر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

للقلب نبضه وللسطر نَظْمه…

دقّـات تلك العضلةِ وشايةٌ تطرق مسامع الحكيم همسـًـا فتكشف عمَّـا اعترى الجسد من عِلَل، يحرك السماعة بين أنامله، يوقظ ذهنه ويرهف سمعه، يتحرَّى أدنى دبيب يُباغتُ النَّبضَ في تواتره.

كذلك هي السطور تنبض بألفاظها لمن ألقى السمع مُتذوقًا لِنَظْمِها، يقتفي أثر المعنى ويستَجْلي الحُسن المُسَجَّى على مَتْن الحروف.

لكن ماذا لو اِرتَصَّت أمام ناظِرَيْنا الحروف تِباعــًا..

أو ماذا لو اِرتَصَّت الحروف تِباعــًا أمام ناظِرَيْنا..

 وكُنَّا لا ندرك لحركةِ الكَلِم داخل النص معنى، أو لم يكن لتأخير كلمة « الحروف » أو تقديمها وزنٌ يُذكر؟ أكانت علوم النَّحو والبلاغة وسائل تكفينا لِنتَحسَّسَ  وقْع اللَّفظةِ  و لنُسَائِلَها عن اِطمِئنَانِها في موضعها من الجملة؟

أكنَّا لنميِّزَ صفاء النصّ البديع سواءٌ امتلكنا ناصية البيان أم عدمناها ؟

ثم إن الصّفاء على مراتب يعلو بعضها بعضـًا، وإن له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز، ذاك الذي لا يُؤتَى لمخلوق وإنما يتفرد به الخالق، أكانت لتحضرنا عند تصور هذا الإعجاز في كتاب القدير هَيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلُّقاً بالحرف من حيث هو مسموع، وباللفظ من حيث تواليه في عجيب اِتِّساق وانسجام إذا كان الغموض قابعا بظله على مفاهيم كالبلاغة والبيان والبراعة؟

كان التساؤل « عما أعجز العرب تحديدا في القرآن الكريم » مصاحبا لعبد القاهر الجرجاني منذ بداياته في طلب العلم، يطرق قريحته ملحا فتجود بعظيم الحجج وعجيب الفوائد، وكان يرى أن السبيل لفهمه يبدأ من تحديد المعيار الذي يتفاضل به الكلام بعضه على بعض، يصحبنا عبر كتابه « دلائل الإعجاز » في رحلته الطويلة لفك الرموز واستبانة مناط الإعجاز في القرآن الكريم.

 

العرب و الإعجاز

كيف للعرب و هم أعرف الناس باللغة و أفصح من نطق بها أن يعجزوا عن الإتيان بمثل القرآن؟ كيف لهم أن يتركوا معارضته بمثله وقد تُحدُّوا فيه، ويتعرضوا لشبا الألسنة و يقتحموا موارد الموت؟

إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سمعوا القرآن وحين تُحدُّوا إلى معارضته، سمعوا كلاما لم يسمعوا قط مثله، وأنهم رازوا أنفسهم فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريبا منه فهل نكون قد شفينا علة السائل عن سبب العجز و مضربه ؟

تباينت أقوال المتقدمين و المتأخرين في إعجاز القرآن الكريم بين من يرى القرآن:

معجزا في لفظه وأسلوبه: بيانا وفصاحة، بلاغة وجزالة، نظما وتركيبا.

معجزا في معناه وتشريعاته: إحكاما ونظاما، إجمالا وتفصيلا، توافقا وتصديقا، عدلا وإصلاحا.

معجزا في أخباره: صدقا في الماضي، وتحققا في المستقبل.

فبين من يُغلِّبُ وجها على آخر و بين من يرى بأنه جامع لكل هذا، يأتي الجرجاني ليبين أنه لا ينتهي إِلى ثلج اليقين، إلا من تجاوز حد العلم بالشيء مجملا، إِلى العلم به مفصلا، لا يُقْنِعه إلا النظر في زواياه، والتغلغل في مكامنه؛ فلا يقصر نظره عن حقيقة أن الكتب السماوية قد تقاطعت تشريعاتها و معاني أحكامها مع القرآن لكنه تفرد عنها بإعجازه البياني، ولا يرضى الساعي لمعرفة الإعجاز وفهمه بأن يسكن للمعرفة المبهمة و يركن إليها كأن يحصرها في وجه دون غيره، أو أن يجعلها في كل احتمال دون التفطن لبعض التناقضات المستترة بين الوجه وأخيه.

 

من الثنائيات اللغوية إلى نظرية النظم

ركَّز بعض النحاة على ضبط أواخر الكلماتِ وتتبُّعِ الإعراب، فجعلوا هذا العلم مجموعةٌ من المصطلحات والقواعد الجافّة مدفوعين بهاجس شيوع اللحن في القرآن الكريم، وغالى بعض البلاغيين في الميل لجانب البيان و البديع، و اتسعت الفجوة كذلك بين أنصار اللفظ وأنصار المعنى، فكان ترجيح الكفة لطرف دون الآخر حائلا دون الوصول لمعايير معلومة ندرك بها وجه التفاضل في الكلام ومنه نستوضح القدرة الإعجازية للقرآن الكريم. 

مدَّ الجرجاني جسورا بين علم النحو وعلم المعاني وأسس لنظرية النظم القائمة أساسا على العلاقات التي تقيمها اللغة بين الألفاظ  ومعانيها، مراعيا مبدأ الثنائية في طرق هذه الظواهر الأسلوبية المتمثلة في التقديم والتأخير والذكر والحذف والفصل والوصل ومجاميع ثنائية أخرى، متعلقة بالفصائل النحوية والصور البيانية.

حاولنا في هذا المقال أن نتقصَّى خطوات الكاتب بين مد وجزر الثنائيات، علنا نرسو بالمعاني على موضع متزن نستوضح فيه بعضا من ملامح فكرة نظرية النظم.

 

و استوت على الجودي

يتأمل النَّاظر لقوله تعالى: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }  (سورة هود:44).

 فلا يجد لفظة منها,بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت,أدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية، فالناظر للفظة « ابلعي » وحدها دون ما قبلها وما بعدها لا يجد فيها من الإعجاز شيئًا لذاتها.

 ومعلوم أن ’مبدأ العظمة’ في أن نوديت الأرض ثم أمرت، ثم أن كان النداء ب « يا » دون « أي » (نحو: يا أيتها الأرض) ثم إضافة « الماء » إلى « الكاف » دون أن يقال « ابلعي الماء » وجعل عنصر المفعول مضافا (ماءك) غير متخذ (أل) التعريف.

و أردف ذلك بما يقابله من نداء السماء وأمرها على شاكلة الأرض انسجاما مع طبيعة الحال و مقام الآية وسياقها، وأمر كل منهما بما هو من شأنه (ابلعي و اقلعي)، وأضيف إلى ذلك فعلان بصيغة المجهول (غِيض الماء) و( قُضِي الأمر) لجلاء قدرته تعالى عظمته على غيض الماء و قضاء الآمر وحسمه، و اتبع ذلك بتركيب اُضْمِر عنصر الفاعل فيه وهو (السفينة) قبل ذكره، دلالة على عظم شأن السفينة كما هو شرط الفخامة كونها سفينة نوح (عليه السلام) التي اقترنت بحدث كبير، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو « استوت على الجودي ».

و قوبلت خاتمة الآية بفاتحتها بتكرار العنصر الفعلي المجهول (قِيل).

أكانت هذه المعاني لتتجلى لنا لو كان اللفظ مصب اهتمامنا ؟ إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، إنما الفضيلة وخلاقها، في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، فالنظم الناجم عن مجموعة الروابط و العلاقات اللغوية، هو الذي يحدد معنى اللفظة، و يعطيها قيمتها ومزيَّتها،ولا قيمة لهذه الأخيرة خارج السياق الذي اُورِدت فيه.

ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر. فلا تجد أحدا يقول: « هذه اللفظة فصيحة »، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها، و في هذا يقول الشيخ:

« إنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض،وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقريها إلى آخرها فالفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها. »

والفائدة في توضيح هذا الفرق: أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.

فالنظم إذن: هو توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم. وهو تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، والكلم ثلاث: اسم وفعل وحرف، وللتعليق فيما بينها طرق معلومة، لا تعدو ثلاثة أقسام: تعلق اسم باسم، تعلق اسم بفعل، تعلق حرف بهما.

 وبذلك كان أول ربط بين النظم وعلم النحو.

 

جوهر نظرية النظم: العلاقة بين اللفظ و المعنى

لم يكن الجرجاني أول من تطرق لموضوع النظم في الإعجاز القرآني فقد سبقه في ذكره كل من الجاحظ والخطابي والباقلاني والقاضي الجبائي  وغيرهم.

غير أن الجبائي مثلا حصر البلاغة في الجمع بين جزالة اللفظ و حسن المعنى وقيد الفصاحة بهما من غير تعمق كبير في تفسيره للقضية  وفي هذا يقول « إنما يكون الكلام فصيحا لجزالة لفظه وحسن معناه ولابد من اعتبار الأمرين لأنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا  فإذن يجب أن يكون جامعا لهذين الأمرين.. »

و هنا تأتي الخطوة الجبارة في علم الإعجاز والتي نقل بها الجرجاني موضوع النظم بالمفهوم الاعتزالي القائم على ترتيب الألفاظ و حسن انتقائها و جودة سبكها إلى ساحة المعاني النفسية و المعاني النحوية التي تحدث بسببها المزية و يزداد الفضل و يتكاثر، وما نظم الكلام؛ في نظره؛ إلا نظم للمعاني في النفس، فالمعادلة التي أراد التنبيه إليها والبرهنة عليها هي معرفة مدلول « المعاني النفسية » وربطها بالكلام النفسي من جهة وبيان المعاني النحوية من جهة أخرى.

هذا هو جوهر نظرية النظم ولبها لأنه « لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما، وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت  بها آثارها، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق ».

إن الألفاظ إذا « أوعية للمعاني » وتِلكُم هي الشعرة الفارقة التي تُخرج البلاغة من المذهب المرفوض الذي دعى الشيخ الى نقضه إلى المذهب الذي دعا إليه.

أما الشق الثاني فهو ارتباط المعاني ببعضها ودراسة العلاقات بينها؛ أي كما سبق و ذكرنا في تعريف النظم:  تعلق اسم باسم، تعلق اسم بفعل، تعلق حرف بهما؛ وهي العلاقات الثنائية التي استفاض الجرجاني في تحليلها ناقدا الشروح التي كانت توهم السامع بالفهم بينما هي مجرد إشارات مبهمة إلى المعاني، كأن نقول: إن هذا التنكير للتعظيم، وهذا التعريف يفيد الاختصاص، لما في ذلك من اختزال للفكرة و إغماضها، وكذلك ما في قولنا هذا التقديم للعناية ،إذ رفض عبد القاهر أن تختصر دلالة التقديم هذا الاختصار، ولابد في رأيه أن تبين وجه العناية، و كذلك لابد أن تبين وجه التعظيم في التنكير،ووجه الاختصاص في التعريف، « ولستَ بمستطيع  بيان وجه التعظيم أو وجه الاختصاص، إلا إذا تمكنت من الأغراض »، و معرفة الأغراض و المقاصد ليست بالأمر اليسير الإدراك؛ كما يقول العلماء؛ وإنما هي وعي يقظ بسياق الكلام و جوهر المعنى، و معرفة دقيقة بتيَّاره، وجهات انصبابه، و حركة نزوعه.

 

الغموض و الوضوح: نموذج لثنائية من ثنائيات النظم

و مثلما وفق عبد القاهر في دحض حجج المتشبعين للفظ و المغالين في نصرة المعنى، استطاع أن يستبين سبيل الجادة التي افتقدها كل من أنصار الطبع و أنصار الصنعة اللفظية، و أمام اتساع الهوة وتعمق الشرخ بينهما لم يجد الجرجاني بدا من إيقاف هذا المد وردم تلك الفجوة كي لا تذهب بالوظيفة التواصلية اللغوية، عندئذ طرح فكرة الغموض وحدوده، وبحث عن توفيق يحد من غلواء المفارقة التي تتكئ على الغرابة الجالبة للدهشة وربطها بلذة المعرفة التي ينتشي بها العقل وتأنس بها النفس لأنه « من المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه و معاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى و بالمزيّة أولى فكان موقعه من النفس أجلّ و ألطف و كانت به أضن و أشغف ».

و للتوفيق بين الرأي القائل بأن التعقيد من شأنه أن يكسب المعنى غموضا مشرفا له وزائدا في فضله و بين الرأي القائل « أن خير الكلام ما كان معناه أسبق إلى قلبك من لفظه إلى سمعك ». يوضح فكرة الغموض و الوضوح جاعلا لكل منهما هامشا من السلب والإيجاب،  فليس كل غموض يدفعنا إلى كد النظر يعد غموضا فنيا، وبخاصة لما يكون مجرد تعقيد ناجم عن سوء التركيب و التأليف بين الوحدات، لذلك ذم هذا الجنس لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار اللازم، « فكان أحق أصناف التعقد بالذم ما يتعبك ثم لا يجدي عليك و يؤرقك ثم لا يورق لك »، وعلى النقيض من هذا فانه كلما كان المعنى لطيفا كان الجهد المبذول في استكشافه محمودا مبررا، وإنما يزيدك الطلب فرحا بالمعنى و أنسا به إذا كان لذلك أهلا، ولا بد أن يتضمن هذا النوع من الكلام علامات هادية إلى المعنى المراد ودالة عليه، « حاله حال المنار الذي توقد فيه الأنوار كي يهتدي على ضوئها المدلجون ».

هذا و إن الوضوح لا يعني البتة أن يكون الكلام ساذجا لا يستدعي أدنى تفكير ولا نظر،على أن المعاني الشريفة لابد لها من حجاب يتفاعل معه الفكر لإدراك فحواها و هو أمر له تعلق بجماليات التلقي. وبهذا يكون الجرجاني سعى إلى التوفيق بين خصوصية الكلام العالي الطبقة و بين خاصية الوضوح الذي هو مطلب لغوي لا يحوج المتلقي إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله.

 

الإيجاز والإسْهاب

إما بخصوص الإيجاز وما يتحقق به، فعكس ما كان شائعا بأن الإيجاز يتأتى بتكثير المعنى وتقليل اللفظ، يرى عبد القاهر أن الإيجاز هو من محاسن النظم وأحد مقتضياته يحصل بفعل حسن استغلال مواقع الألفاظ في سلسلة التركيب، أي أن إفادة معاني زائدة على المعنى الأصلي يتحقق بإدخال تغيير في تشكيل بنية الكلام ويمكن توضيح ذلك بما مثَّل له في هذا المجال بقوله تعالى « وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنّ  » الأنعام 100

 حيث بيَّن أن هذه الآية تتضمن معنيين اثنين، أولهما: أنهم جعلوا الجن شركاء الله، وثانيهما: أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غيره، وهذا يتحقق بآلية التقديم و التأخير بين الوحدات وهو ما جاءت الآية الكريمة على صورته، لذلك قال: « فانظر الآن إلى شرف ما حل من المعنى بأن قدم الشركاء، واعتَبِره  فانه ينبهك لأمر النظم، ويعلمك كيف يكون الإيجاز و كيف يُزاد في المعنى من غير أن يُزاد في اللفظ ». فقد بين أن لا سبيل لإعادة تركيب الألفاظ  ليكون الحاصل نفسه إلا بنفس النظم.

« إذ قد ترى أن ليس إلا تقديم أو تأخير و انه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى ما إن حاولت مع تركه لم يحصل لك و احتجت إلى أن تستأنف له كلاما نحو أن تقول (وجعلوا الجن شركاء لله و ما ينبغي أن يكون الله شريك من الجن و لا من غيرهم). »

و فحوى القول في هذه القضية: أن تكثير المعنى منوط بكيفية نظم الكلمات داخل الجملة و ما يعتري ذلك من عدول تركيبي يتميز به الفرع عن الأصل، و يترتب على الموقعية التي تتخذها الوحدات التركيبة لتحقيق جودة النظم ووفرة الدلالة، والجرجاني يرى أن لا فضيلة لإحدى العبارتين على الأخرى إلا بما توَفِّره من تأثير في المعنى لا يكون لصاحبتها.

 

الحجاج لتثبيت ركائز نظرية النظم

كان لابد للجرجاني من تقوية الدعائم التي ارتكزت عليها نظريته بدءاً بتقويم  بعض الأفكار التي حادت عن الفهم السليم في نظره، أهمها: مكانة الشعر والنحو، علم البلاغة ،البيان، اللفظ والمعنى الفصاحة.. الخ. وانتهاءً إلى الرد على مخالفيه من المعتزلة و غيرهم و استند للوصول لغايته على النمط الحجاجي  محللا شواهده من الشعر والقرآن.

 

 النفس الحجاجي في أسلوب عبد القاهر

تقوم فكرة الحجاج في « دلائل الإعجاز » على التحليل وفق نمط معين قائم على الإقناع والإمتاع انسجاما مع منهجية التبني والإقصاء.

« يمكن القول بأن أسلوب الحجاج في هذا الكتاب يقوم على منطق طبيعي بلاغي يسعى إلى الكشف عن الآليات التي يتم عبرها بناء الخطاب ويتحدد في كونه حجاجا تغذيه النزعة المنهجية وتؤطره النظرية اللغوية وهو يحاكي في بنائه المحاكمة المنطقية ذات القدرة التأثيرية والكفاية التفاعلية القائمة على دحض حجة الخصم والتمكين لفكرته. »[1]

نرى هذا جليا في رده على المعتزلة وإبطاله لحجة القائلين منهم بالصرفة[2] ثم في الرد على من قال بأن الإِ عجاز يتعلق بالكلمة المفردة وهذا محال لأن الألفاظ المفردة الواردة في القرآن الكريم هي ألفاظ اللغة المعهودة عند العرب بأجراسها ومدلولاتها فلا يصح أن يكون التحدي بما هو موجود عندهم معروف بينهم.

حين تبيَّن فساد هذه الآراء وعدم استقامتها عند عرضها على محك النظر وقياسها بميزان العقل،تحررت التساؤلات و اتسعت الرؤى بحثا عن من العوامل المحققة للإعجاز و فتح الباب أمام الجرجاني لوضع لبنات صرحه اللغوي الشامخ بعد تسوية أرضية المعتقدات الخاطئة الراسخة عن كلِّ مِنَ الشعر والنحو والبيان و الفصاحة.

 

فضل علم النحو والشعر

استقر قول عبد القاهر على التأكيد على مركزية فهم النصوص الشعرية وكذا التمكن من النحو والصرف من أجل فهم اللغة التي نزل بها القرآن فلا عجب أن خصص أولى فصول كتابه لهما مستطردا في ذكر فضل الشعر وعلم النحو و رادّا عن جل الشبهات المثارة حولهما، فالشعر كما يذكر « معدن البلاغة »، والنحو « هو النَّاسب لها والذي ينمِّيها إلى أصولها »[3] أي الدّال على موطنها، لينتهي إلى الإشارة في مقدمته الى تلك الرابطة بين النحو والشعر وأن البلاغة هي نتاج ما بينهما.

« كان سيبويه عند عبد القاهر أوسع الناس علمـًا بمعاني النحو وكان الجاحظ أعلم الناس بالشعر »[4]. لقد مزج عبد القاهر بين علم الجاحظ وعلم سيبويه مبرزا العلاقة الخفية بينهما.

من جهة أخرى، عمد الجرجاني إلى إبراز جوهر الدرس النحوي، فهو « العلم الذي يبحث في وظائف الكلمة من خلال العلاقات السياقية اللغوية » وهذا يعني أن وظيفة النحو ليست في البحث عن الخطأ و الصواب، وحماية اللغة من اللحن وحسب كما هو شائع ؛ بل إن وظيفته إلى جانب هذا هي إيضاح المعاني و بيان .الفروق اللغوية و المعنوية بين حالات الاستعمال اللغوي.

 

تصحيح المفاهيم حول علم البيان

أشاد عبد القاهر بمكانة البيان كعلم يحف غيره من العلوم ويصورها في هيئة جمالية بديعة، فلولاه لما رأينا « لسانًا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدُّر، ويريك بدائع الزهر » لكنه ينوه لما طال هذا العلم من سوء فهم إذ قال: « إلا أنك لن ترى على ذلك نوعا من العلم قد لَقي من الضِّيم ما لقيه،ومُنِيَ من الحَيفِ ما مُنِيَ به،ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه. »

ويبين عبد القاهر أن الفصاحة والبلاغة في البيان لا يمكن أن تتلخص في جزيل اللفظ أو في طلاقة اللسان، إذ تجد من « يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول، وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه لكنة ولا تقف به حبسة، وأن يستعمل اللفظ الغريب، والكلمة الوحشية.. » كل هذا في نظر الشيخ لا يعدو على أن يكون وسائل يحوزها المتكلم وليست مبلغ التمكنة، والتحكم فيها  إنما هو من حسن استعمال تلك الوسائل لا غير، أما البيان، فعلم قائم بذاته يحتاج حسن دراية بالعلاقة المضمرة بين المعاني و الألفاظ.

 

هل البيان مناط الإعجاز؟

بعد أن استقرت الصورة الصحيحة للبيان في الذهن تمكن عبد القاهر من الرد على القائلين بأن الإعجاز يكمن في البيان وحده من مجاز واستعارة كونها « الأقطاب التي تدور البلاغة عليها و الأعضاء التي تستند الفصاحة إليها » حيث اتفق عبد القاهر مع القائلين بأن لصور البيان قيمة في النظم ،غير أنه خالفهم في القيمة الفنية لتلك الأساليب، حيث يقرر أن المزيّة تعود إلى جانب المعنى لا إلى جانب اللفظ ،والأهم من ذلك أن « هذا لا يفردها (أي صور البيان) بالمزية و يجعلها مناط الإعجاز أو يقتصر عليها، لأن القول بذلك يؤدي إلى أن يكون مناط الإعجاز في آي معدودة و في مواضع من السور الطوال مخصوصة، أضف إلى ذلك أن هذه الصور هي من مقتضيات النظم بذاته ».

 

نظرية النظم و المدارس اللغوية المعاصرة

يتبين من تحليلات الجرجاني؛ التي فكك فيها البنية السطحية متناولا جميع جزئياتها و عناصرها ليستخرج دلالات النصوص؛ أنه سلك مسلكا شبيها بمسلك الأسلوبين في دراستهم للمستويات اللغوية في النصوص الأدبية للعبور منها إلى البنية التحتية، و يمكن عدُّ هذا الجهد الخطوات الأولى التي رُسِمت عليها قاعدة الدراسة الأسلوبية المتبلورة في العصر الراهن، فدعوة عبد القادر إلى التزام المنهج اللغوي في دراسة الأدب و نقده تلتقي مع وجهة النظر الحديثة، ذلك أن الجرجاني قد جعل النحو و البلاغة محور دراسته و « الدرس الأسلوبي ينمو عند نقطة الالتماس بين النحو و البلاغة ».

 فضلا عن ذلك فإن تحليلات الجرجاني العلمية الدقيقة للنصوص أصبحت ميدانا رحبا لإلتقاء فلسفة اللغة بفلسفة الفن،لأنه اعتمد المنهج الذي يفسر القيمة في الأدب بما يكون بين اللغة من علاقات، ويضاف إلى ذلك كله أن مدرسة لغوية يترأسها اللغوي الأمريكي (دارلس فيلمور) اعتنت بدراسة الدلالة الوظيفية للعناصر التركيبة  واتخذتها أداة للتحليل اللغوي؛ كما فعل ذلك الجرجاني ببحثه عن مظاهر التعليق و التماسك بين العناصر اللغوية؛ وسمي هذا الاتجاه ب (نحو الإعراب) و (نحو العلاقة) وهو « اتجاه يتضمن مفاهيم تقرب من مفهوم معنى العلاقة بين أبواب النحو المختلفة الذي تنطوي عليه فكرة (التعليق) » فلا مغالاة في ما يقال  أن عبد القاهر كان اللساني الأول في تاريخ الدراسة اللغوية و البنيوي الأول قبل أن تعرف أوروبا المنهج البنيوي في دراسة اللغة بعد فرديناند دوسوسيير.

و ركز الجرجاني كما ركز دو سوسيير على دور المتلقي في إدراك « معنى المعنى » و مسائل المجاز و هي من أحدث الأبحاث النقدية.

إن إدراك نظرية النظم عند الجرجاني و الكشف عن أسرارها و دور الجرجاني و منهجه في دراستها يثبت أنها نظرية لسانية أسلوبية تؤكد أن صاحبها سبق الكثير من المدارس اللسانية الحديثة .

و هو جهد جبار و إن لم يظهر جليا في التراث العربي، فكل علم جديد يساير مبدأ النشوء، يكون قليلا ثم يكبر على مر الأجيال اللاحقة إن لم تهمله.

 

خاتمة

إن المطَّلِعَ على الدراسات البلاغية المعاصرة يجدها متخلفة جدا عن منهج عبد القاهر، وفي هذا يقول الشيخ محمد أبو موسى: « لا أشك أن تراثنا أكثر تقدما منا، وأنه لم يَتخلَّف، وإنما نحن الذين تخلفنا ».

إن الساعي لتجديد الدرس البلاغي يجب أن يبدأ بكشف أصول منهج عبد القاهر، إذ صار هذا المجرى الذي شقوه في قلب تراث الشيخ نهر الدراسة البلاغية ينهل من سواقيه من تلاه، فتجد ثلة من العلماء استنبتوا منه علومهم، واستخرجوا من النواة المطروحة نخلة سامقة، واهتدوا إلى البذور التي تطوى في ضالتها الشجر الطيب.

هذا الجيل الذي نعده للغد المبهم ليس له حاجة أشد من حاجته إلى أن يفتح صفحات المعرفة التي تدله على طرائق بناء نظرياته الخاصة في شتى المجالات، وما نظرية النظم إلا نموذج حي في أساليب التذوق و النقد النابعة من قلب التراث العربي الإسلامي.


[1]د. عبد القادر حمراني / الحجاج في دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني

[2]أي ان الإعجاز يكمن في صرف الله العرب عن الإتيان بمثل القرآن

 [3]عبد القاهر الجرجاني / دلائل الإعجاز

[4]محمد أبو موسى / مدخل إلى كتابي عبد القاهر

المصادر

عبد القاهر الجرجاني / دلائل الإعجاز

عبد القاهر الجرجاني / أسرار البلاغة 

محمد أبو موسى / مدخل إلى كتابي عبد القاهر

د. عبد القادر حمراني / الحجاج في دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني

القاضي عبد الجبار الأسد أبادي / المعنى في أبواب العدل و التوحيد

دلخوش جار الله حسين دزه يي / الثنائيات المتغايرة في كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، دراسة دلالية

 د.محمد إسماعيل بصل / الملامح اللسانية في الفكر اللغوي العربي، عبد القاهر الجرجاني في كتابه « دلائل الإعجاز » أنموذجا