المثقف والثورة
بومحمد جمال الدين
ان التاريخ يجعلنا نعيش تجارب الأمم السالفة والشعوب الغابرة، وتجارب السابقين لا تكون ذات محل من الإعراب الا اذا كوّنت جملة مفيدة تخبرنا عن الفعل و الفاعل.
وهكذا كان دأب التاريخ أن يفصح عن نفسه بأفعال غيرت مجراه وفاعلين خطّوا اسماءهم في صفحاته، ولفهم سننه ونواميسه يتعين على الدارس ان يفرد ما تشابه من ظواهره ويربطها بأسبابها ليتبين تلك اللحظات الفارقة وبوادرها، كما أنه ينظر في أحوال الفاعلين ودوافعهم ليتسنى له وضع صفات تميزهم وخصائص تعين على اعطاء تعريف يسهل مقاربتهم كمجموعة او كطبقة.
ومما لا ريب فيه ان الأفعال التي تقطع تسلسل التاريخ الهادئ وتزلزل سكينته تأخذ وصف الثورة.
وهذا المقال محاولة متواضعة لتسليط الضوء على هاته الظاهرة المعقدة من جانب علاقتها بـ »ـالمثقف » ; ذلك الكائن الجديد الذي يمتاز بأنه يحشر أنفه في كل ما لا يعنيه، فلا شك أن بينه وبين الثورة علاقة جدلية سنحاول تفكيكها و تفسيرها والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
محاولة للتعريف و ضبطٌ للمصطلحات
ان أول عقبة تقف في طريقنا لفهم الظاهرة هي صعوبة تعريف كل من المصطلحين، فالقواميس اللغوية العتيقة تعرف الثورة بأنها انثى الثور أي البقرة!! ونجد الثورة كذلك تفيد القَومة أو الهوجة و هي القيام في حالة الغضب، و أما كلمة » مثقف » فهي مشتقة من الفعل ثقف الذي يعني رأى أو أمسك كما ورد في الذكر الحكيم » و اقتلوهم حيث ثقفتموهم » كما أنها قد تأتي في سياق : ثقف الشيء أي تعلمه سريعا، و هي كلها مفاهيم تدور في معنى الإدراك. ومصطلح مثقف كما نستعمله اليوم قد ورد أول مرة في قاموس محيط المحيط لبطرس البستاني كترجمة للكلمة intellectuel الفرنسية.
ويتضح مما سبق أن المعاني اللغوية لهاته الألفاظ قاصرة عن تفسير الظواهر الاجتماعية التي تفيدها تلك المفردات اليوم. فالتعريف الحالي هو وليد التجربة البشرية و من الواضح انه قد تطور تاريخيا بحكم اختلاف التجارب و نتائجها و هو ما سيجعل التعريف الاصطلاحي كذلك محل اختلاف. و لسنا نزعم بهذا الصدد ان التعريف الذي سنقترحه هو تعريف جامع مانع او انه يأخذ الصفة العلمية، فتعدد المناهج و نسبية المفاهيم في العلوم الانسانية تحتم علينا ان نتفق على التعريف كونه أداة تمكننا من فهم أعمق للظاهرة، فالتعاريف لا تتمايز الى صواب و خطأ بل بفعاليتها كونها أقل أو أكثر تفسيرية للموضوع المتناول.
الثورة
ان الثورة مصطلح يطلق على تلك التحولات الكبرى و الجوهرية في التاريخ و التي تكون فيصلا بين مرحلتين متباينتين فنجد مثلا الثورة العلمية و الثورة الصناعية و الثورة السياسية او العسكرية. و لعل ما نحاول طرحه هو أقرب ما يكون للثورة السياسية التي تعني تغييرا عميقا و سريعا لنظام الحكم، و هذا المفهوم العام يشمل عديد التحولات الكبرى منذ تمرد العبيد في روما القديمة بقيادة سبارتاكوس الذي صار يعرف فيما بعد بثورة العبيد الى مختلف الانقلابات العسكرية في العصر الحديث، و استصحاب مصطلح الثورة لمشاعر و احاسيس مرتبطة بأمجاد تاريخية يجعل المفهوم ضبابيا و يصعب من عملية تعريفه.
لذلك لا بد من تحديد ادق دون الوقوع في خطأ الاستقراء الناقص الذي يكون احيانا من نموذج واحد،.. و هذا حين يكون الدارس مبهورا بتجربة ثورية معينة فيلغي بعدها صفة الثورة على كل تجربة تخالفها و لو في جزئية بسيطة، كحال بعض من يقدسون ثورات بعينها كالثورة الفرنسية او الانجليزية مثلا… كما نتجنب كذلك الالتزام بتعريف معياري يجعل احدى خصائص الثورات او مخرجاتها عنصرا اساسيا يدور معه وصف الثورة في الوجود و العدم و مثال ذلك المدرسة الماركسية التي تجعل الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو الحدث الأساسي و الضروري لاكتمال الثورة.
و سنحدد كتعريف ان الثورة تعني الانتقال من نظام حكم الى آخر بصفة شاملة و سريعة بواسطة الانتفاضة و الضغط الشعبي و من خارج المنظومة او الدستور. و هذا التعريف يجعلنا نضع الثورة بين طرفين اولهما الإصلاح حين يكون تغيير نظام الحكم بصفة تدريجية و سلمية و من داخل منظومته ، و الطرف الآخر هو الانقلاب ;حيث يكون تغيير النظام بواسطة القوة العسكرية و استلام الجيش لزمام الحكم. كما يخرج من تعريفها ايضا الحركات الاحتجاجية الشعبية التي تطالب باصلاحات معينة دون الوصول الى درجة المطالبة بإسقاط النظام و هذا ما قد يأخذ وصف الانتفاضة او الحراك.
و بهذا نكون قد وقفنا موقفا وسطا بين منهج المؤرخ الذي يعرف الظاهرة باعتبار نتائجها و مآلاتها فيضع شرط نجاح الفعل التاريخي في آنه ضروريا، و بين منهج المفكر الذي يقيس الأمور على المبادئ و الأسباب التي أدت اليها، فمادامت تحقق الشرط الاخلاقي لا يهم بعد ذلك نجاح مسار التغيير او فشله ظاهريا فيكفي انه قد أسس خطوة في تطور حركة التاريخ.
المثقف
و كلمة » مثقف » هي أوسع بكثير بحكم تعدد تعاريف الثقافة نفسها فمن قائل إن الثقافة هي نتاج المجتمع حيث ان الواقع الاقتصادي و وسائل الانتاج هو ما سيحدد تشكيلة المجتمع الطبقية و بناء عليه تكون الثقافة ثمرة للتفاعل الحاصل بين طبقات المجتمع المتباينة و بين حركة الموارد، فتكون بذلك نتيجة معبرة عن واقع المجتمع لا صانعة له. و الرأي الآخر فيقول ان الأفكار هي التي تشكل الواقع بمختلف مظاهره، فالفرز الطبقي و الواقع الاقتصادي ليس ضرورة طبيعية فهو نتاج لظروف تاريخية كانت الأفكار السائدة فيها هي العامل الأساسي في تشكيل المجتمع بصورته الحالية.
و نحن لا يمكن بحال من الأحوال ان ننكر تأثير الواقع المجتمعي على الثقافة و الأفكار عموما و لكن في نفس الوقت اذا سلمنا بكلية هذا التفسير المادي فإننا سنجد صعوبة في تفسير نهضة الأمة الألمانية غداة الحرب العالمية المدمرة حيث كانت فاقدة لعالم أشيائها غير أنها تمكنت من استعادة مكانتها و بعث نهضتها بواسطة عالم أفكارها. و نكتفي هنا بالقول أن كلا من التفسيرين ضروري للفهم و لكنه غير كاف بنفسه.
و بالعودة الى كلمة » مثقف » نجد انها ظهرت اول مرة أثناء الثورة الفرنسية في قضية درايفوس الشهيرة حين خط مجموعة من رجال الفكر و الأدب آنذاك بيانا ينددون فيه بمعاداة السامية، و نُشر البيان في الصحف تحت مسمى » بيان المثقفين » فنجد هنا ان اصحاب » البضاعة الفكرية » ان صح التعبير اتخذوا موقفا من الحياة العامة بصفتهم تلك لا بصفتهم حزبيين او تابعين لهيئة رسمية. و البيئة الأوربية التي ظهر فيها المثقف كانت بيئة تمارس الكنيسة فيها الرقابة على الفكر و تمنع حق التعليم خارج اسوارها، و تستفيد من ذلك في احتكار الموارد الاقتصادية و ممارسة الإقطاع،.. كل هذا باسم الدين. و قد أدت هاته الأرستقراطية الدينية الى توسيع الطبقة الكادحة من عموم الشعب و تفاقم حرمانها. كل هذا ادى الى ظهور خصائص و مميزات للمثقف الأوربي أولها اتسامه باللادينية حيث كان يعتبر ان الدين عدو للعلم بحكم ما عايشه، و ثانيها معاداة الارستقراطية و الجنوح نحو الجماهير لأن الطبقة الأرستقراطية كانت مشكلة بالأساس من رجال الدين و ثالثها النزعة القومية حيث مثلت اللغة اللاتينية مظهرا من مظاهر التسلط الديني فكان رفضها من منطلق رفض سلطة الكنيسة.
و من الملاحظ ان هاته الخصائص قد انتقلت الى المثقفين في المجتمعات الأخرى كمسلمات و كجزء من تعريف المثقف.و حتى المثقف الاوروبي المعاصر الذي يعيش زمانا مغايرا نجده خاضعا لهاته المفاهيم كنوع من الأسطورة أو كما عبر عنه اليونانيون القدامى بلفظ » الميتوس » و هو القول الخبري الذي لا يطلب دليلا من العقل المعهود و لا يقتضي لنفسه سندا من الواقع المشهود، و هو المقابل لمفهوم » اللوغوس » اي القول الذي لا يستند في اثبات حقائقه الى ادلة العقل القاطعة او شواهد الواقع الساطعة و قد تأخذ في تجليها مسميات جديدة كأسطورة الثورة و اسطورة اليسار حيث يجعل البعض الايمان بهما شرطا من شروط تعريف المثقف.
و النظر الموضوعي يجعلنا ندرك ان ما سبق لا يعدو ان يكون نتاجا لظروف لها زمانها و مكانها و انها تنتفي اذا انتفت اسباب وجودها و دواعي تبنيها. و لهذا فإننا نختار كتعريف للمثقف أنه : ذلك الكائن صاحب الصنعة الفكرية او العلمية الذي يبدي مواقفا اخلاقية تجاه القضايا العامة بناء على تحليله العقلاني الذي يتوسل فيه بمؤهلاته، و بهذا نعطي لأنفسنا فرصة لدراسة مواقف من يصدق عليهم هذا التعريف من علماء و فلاسفة و مفكرين ممن عاشوا قبل لفظ المثقف و عصر الصحافة.
و هذا التعريف يميز بين المثقف و الخبير الذي يملك المؤهلات العلمية في تخصصه الا انه لا يتجاوزها بإبداء مواقف من الحياة العامة، كما يخرج من التعريف اصحاب التهريج الإعلامي الذين يطلقون الآراء و المواقف جزافا من غير استناد الى تحليل موضوعي. و بتعبير آخر، المثقف هو من يملك من الادوات العلمية و العقلانية ما يمكنه من تحليل الواقع و ابداء الرأي فيه، أي انه القادر على اعطاء نظرة نقدية للمجتمع و الطموح الى واقع افضل برسمه و استشرافه لملامح المستقبل.
عن العلاقة
و العلاقة بين المثقف و الثورة ليست علاقة عمودية كما يتصور البعض بين فاعل و مفعول، فهي علاقة مركبة تبدأ من كون المثقف مسؤولا – بصفته ساعيا الى التغيير – عن حالة ما قبل الثورة، و عن البيئة الثقافية التي ينتجها بوصفها اما حالة قابلية للاستبداد او قابلية للثورة. و تشمل العلاقة لحظة اتخاذ المثقف لموقف من الثورة حال نشوبها، ثم عن دوره فيها بانخراطه و ممارسته لوظيفته النقدية. كما تؤثر الثورة ذاتها في المثقف كونها تلزمه بطرح اسئلة جديدة و بضرورة الاسناد الثقافي للثورات، كما تعتبر دافعا قويا لمراجعة المفاهيم و تصحيح المسارات.
اضافة الى هذا فقد كانت ثورات الربيع العربي حدثا فارقا تباينت فيه مواقف المثقفين، و صار من الضروري ان نتجاوز سؤالنا عن الدور الى التساؤل حول مسؤولية المثقف بحكم المكانة الاجتماعية التي صار يحتلها. و قبل كل هذا فإننا نجد في تراثنا ما يدعو للقلق حول هاته التغيرات الكبرى من هواجس تحت مسميات الخروج و الفتنة.
كل هذا كان دافعا للبحث في حيثيات هذه العلاقة الجدلية، و يجدر بنا التنبيه اننا لا نسعى الى تقديم اجابة عن السؤال تعطي خلاصات عن العلاقة و الدورو تأخذ صفة القيمة او الاجابة الشافية الكافية، بل ندعو الى استصحاب السؤال كإشكالية لمواكبة سنن التاريخ و مسايرة حركة الفكر…
عَودٌ عَلى بَدء
لقد كانت الفتنة الكبرى في موقعة صفين حدثا فارقا في حياة الأمة سياسيا و لا تزال تداعياتها ظاهرة الى الآن ليس من باب تفريق المسلمين فحسب، بل لكونها أسست لمرحلة جديدة بدأت بالتضحية بالشرعية في سبيل وحدة الأمة. لقد أجبرت تلك المعارك الدموية أهل الحل و العقد من المسلمين على اتخاذ موقف وسط، آخذين في الحسبان حداثة العهد بالاسلام و العصبية القبلية التي كانت ما تزال طاغية في الأفق، فرجّحوا كفة وحدة الأمة على شرعية حاكمها مجيزين ذلك من باب الرخصة لا من باب العزيمة.
و في تلك اللحظات التي كانت مرحلة الروح – بتعبير مالك بن نبي – تتجه فيها نحو الأفول، كنا نلاحظ ثورات متفرقة تسعى لاستعادة توهجها، فكانت دلالة على حياة الضمير المسلم و توقه للعودة الى الأصل الذي بنته دولة النبوة و جسدته الخلافة الراشدة، الا ان النهاية المأساوية لثورات الحسين عليه السلام و ابن الزبير رضي الله عنه و من نحا نحوهما، أورثت تخوفا كبيرا لدى الناس و زهدتهم في الشرعية مقابل الوحدة و الأمن، و جعلت رخصة » التأمر عن غير إمرة » تحل محل قاعدة « التأمر في الأمير ».
و قد وجدت فئة المثقفين في الأمة في ذلك العصر – متمثلة في العلماء – نفسها محاصرة بين مطرقة الواجب و سندان الواقع، و مزاحمة بطائفة جديدة من شعراء البلاط و وعاظ السلاطين، فزاد ذلك من تعقيد الأمور و أدى الى ترسيخ مسلمات على شاكلة » سلطان غشوم خير من فتنة تدوم » و صارت تلك الشرارات الأولى للثورة تسمى في كتب التاريخ بالفتن و صار قادتها خوارجا مارقين. كل هذا أدّى الى ظهور فكر خاضع و ضمير خانع افقدا المجتمع الإسلامي دوره التاريخي و أدخلاه مرحلة القابلية للاستعمار.
في الضفة المقابلة و على صعيد آخر كان نجاح الثورات الفرنسية و الانجليزية محفزا للشعوب الاوربية و ملهما للفكر الماركسي الذي جعل الثورة حتمية تاريخية و أعطاها صفة القداسة، و اذا ما أردنا الحديث عن مثقفي تلك الثورات فإننا سنلاحظ تمايز مواقفهم و مذاهبهم حسب طبيعة السلطة، فشمولية النظام الملكي الفرنسي أدّت الى راديكالية واضحة لدى المثقفين كونهم وجدوا أن التغيير لم يعد ممكنا من داخل النظام و أنه صار عقبة يجب اقتحامها و اقتلاعها بشنق آخر الملوك بأمعاء آخر قسيس، و هذا ما جعل مخاض الثورة عسيرا و دمويا و على عكسها كانت مرونة النظام الملكي البريطاني كافية لايجاد سبل اصلاحية من داخل المنظومة خاصة بعد ظهور آليات تمثيلية كالبرلمان، و كانت دافعا لظهور المثقف المحافظ الذي يسعى لإقناع المجتمع بإمكانية التغيير و الاصلاح من داخل الدستور و بطرق سلمية دون الحاجة الى العنف منوها بأهمية الدولة ككيان ضروري للأمة.
و قد قادت هذه الآراء و التجارب الى مراجعة عميقة لفكرة قداسة الثورة لذاتها، خاصة بعدما خابت أغلب النبوءات الماركسية ; فالمجتمعات لم تنقسم الى طبقتين كادحة و رأسمالية، و ووسائل الانتاج توسعت ملكيتها و ظهرت طبقة جديدة من المثقفين كالخبراء و رواد الجامعات، كل هذا دفع الى التساؤل عن جدوى الثورة في ظل امكانية الإصلاح، و من عجائب التناقضات ان الذين يسمون » محافظين » في التيار اليساري هم المؤمنون بحتمية الثورة، و ذلك كونهم حافظوا على أرثوذوكسية الفكر الماركسي.
كما شملت المراجعة فئة المثقفين أنفسهم، و هم الذين لم يكونوا أصحاب دور طليعي في النظرية اليسارية الكلاسيكية رغم أنهم كانوا هم قادتها الفعليين، فكان ظهور مصطلح » المثقف العضوي » الذي طوره أنطونيو غرامشي كشرعنة لدور المثقفين بالتأكيد على وجوب استقطابهم لتحقيق هيمنة ثقافية منحازة لطبقة الجماهير.
و بالعودة الى الربيع العربي نجد أن بوادره ليست حديثة العهد كما يبدو، فكل شيء بدأ مع مطلع القرن العشرين ; أي لحظة إدراك الفارق، و هي اللحظة التي ابتداء منها لم يعد بإمكاننا النظر لأنفسنا مع اهمال الآخر أو دون القياس عليه، فصار حُكمُنا على واقعنا ينعكس على مرآته و هو ما قادنا الى السؤال الشهير : لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم؟ و قد كان هذا دافعا لنشوء عدة مذاهب تحاول تقديم اجابة تبني على أساسها حركتها الإصلاحية و التي ساهمت جميعها بصفة مباشرة الى حد بعيد في خلق الحركات الاستقلالية و اندلاع ثورات التحرير.
لقد كان فكر النهضة العربي سبب يقظة للغافلين، و لأن الوعي بالقهر يزيد المقهور قهرا، كان واضحا أن شمولية الأنظمة آنذاك آيلة الى الزوال… غير أن الطبيعة القبلية السائدة وقتئذ في مجتمعاتنا و نخبوية الفكر النهضوي أدت الى حصر الحرية الفكرية و جعلها برجوازية الى حد ما، و لأن الجيش كان يعتبر الوسيلة الوحيدة للترقي الطبقي للفقراء في مجتمعات العالم الثالث غداة استقلالها من الاستعمار، تجلّى ذلك الفكر في الانقلابات العسكرية التي شهدناها منتصف القرن الماضي في الدول العربية. و الحاصل أن اولئك الضباط المنقلبون كانوا خريجي تلك المرحلة من حرية الفكر، و قد كانوا مثقفين بوجه ما، باعتبارهم حملة مشروع مجتمعي قومي او يساري في الغالب، الا انهم سعوا ان تكون انقلاباتهم آخر الانقلابات فقاموا بخلق ديماغوجية همشت الجيش و المجتمع عموما، فأصبحوا بذلك أكثر شمولية في حكمهم من المنقلب عليهم… وعادة ما تسبق الديماغوجيا فترات الطغيان..
في مطلع القرن الحالي، تمكنت العولمة و طبيعة النظام العالمي الجديد من إعادة احياء الفكر النهضوي، و الأهم من ذلك توسيعه و نشره ليصبح عاما و عموميا، و قد صار يأخذ صورة جلد الذات و المراجعات العميقة و في أحيان كثيرة الكفر بالأنظمة كونها سبب التخلف الأساسي. بإمكاننا القول ان في تلك اللحظة أدرك الفكر العربي و الاسلامي أن التضحية بالشرعية لصالح الوحدة هي تفريط فيهما معا على المدى البعيد، و أن الظلم مؤذن بخراب العمران…
هكذا بدأ تشكل القابلية للثورة التي ستكون شعبية لا نخبوية بعد انتشار الوعي، عفوية و عبثية احيانا لغياب التنظيم و الهيكلة، و راديكالية بسبب شمولية الأنظمة.
الجميل في الثورات أنها تسقط الأقنعة و تكشف الملامح على صورتها الحقة، فكونها أتت دون سابق إنذار، لم تمهل المثقفين الوقت لإعلانها، او تبنيها، و هم أنفسهم لم يمتلكوا الشجاعة للانخراط فيها فضلا عن قيادتها. فإن كنا نتفهم الموقف السلفي السلبي من الثورات بحكم خلفيته و تراثه، فإننا لا نستطيع تفسير رفضها او التحفظ عليها و أحيانا تسفيهها من قبل بعض المثقفين المعارضين، الا أنهم يؤاخذونها على عدم مشاورتهم و يلومونها انها لم توافق هواهم و لم تخطر على بالهم، أو ببساطة لأنها تجاوزتهم ; فذلك الذي كان يفاخر ببضع ساعات قضاها في مخفر للتحقيق و بعض مقالات في الصحف كان يصفها هو بالجريئة و الثائرة، بُهت حين رأى الثوارَ رأي العين و هم يقابلون الرصاص بصدور عارية، و حين أبصر شبابا اتخذوا الشوارع منبرا…
بعض المثقفين لم يكتف بالحياد او التحفظ بل آثر ركوب الموجة لتحريف المسار، و لإجهاض الثورة بثورة مضادة ، و في أحايين كثيرة كانوا أذرعا للانقلابات العسكرية ضاربين إيمانهم بالديمقراطية و بمدنية الدولة عرض الحائط. و اذا كان دوره في العملية الاصلاحية محوريا و أساسيا ، فإن دوره في انجاح الانقلابات أو وأدها لا يقل عن ذلك، فالعسكر لا يمكنه اتمام سطوته و تولي زمام الحكم ما لم يكن له حليف من المجتمع المدني و من المؤسسات العامة، و بدرجة أكبر من وسائل الإعلام، و هذا يعود الى مستوى النخب و الى الزاوية التي تنظر منها و تقيس عليها الأحداث، فالذين دعموا الانقلاب في مصر كان همهم الوحيد هو اقصاء تيار معين من السلطة بأي ثمن، فكان انقسامهم الى : هل انت مع او ضد حكم الإسلاميين؟! فكانت الشخصنة طريقهم للخروج من مدنية الدولة و هدما لصرح الديمقراطية. على عكس ذلك كانت النخب التركية تناقش القيمة لا شخص الرئيس نفسه ، فحتى خصومه السياسيين حسموا موقفهم برفضهم الانقلاب و بالتأكيد على الديمقراطية وحدها سبيلا للتداول على السلطة.
إن انحياز المثقف للثورة لا نعني به بأي حال من الأحوال تخليه عن وظيفته النقدية و تحوله الى صاحب خطاب شعبوي يثير به حماس الجماهير، بل من الواجب ان يمكن نفسه من تحكيم المنهج العقلاني في سعيه لانجاح الثورة مع حرصه على طرح الأسئلة الراهنة مع الابتعاد عن الشخصنة و عن صراع الهويات العقيم.
إن المثقف بعد الثورة ليس هو قبلها، فهي تجعل له همّا جديدا و زادا جديدا و تاريخا متجددا، و كثيرا ما تضحي الثورة بأبنائها.
ان ضرورة الاسناد الثقافي للثورات تقتضي قبل ذلك اصلاح الوسط الثقافي، و هذه المسؤولية تقع على عاتق المثقفين انفسهم، و هذا من اجل تحقيق الاتفاق الأدنى المطلوب الذي يمكن من الاختلاف السلمي في باقي القضايا، و هذا لا يكون ممكنا حين يكون كل تيار ثقافي او ايديولوجي يثبت نفسه بإلغاء الآخر و نفيه، و بخوضه حربا عدمية يكون الكلام فيها من اجل الكلام، اذ لا انعكاس لذلك على الواقع العام، فتبادل الاتهامات من الابراج العاجية لا يغير من واقع الناس شيئاً، و المزايدات الإعلامية لن تساهم في رفع الوعي و لا نشر القيم. هكذا صارت السجالات بين مثقفينا تأخذ صورة المبارزة حيث يصطف وراء كل قائد اتباعه حاسمين موقفهم ان كل ما سيقوله زعيمهم صحيح و ان كل ما سيتفوه به الخصم باطل، و ان صحّ فهو من باب العمالة و المؤامرة، و يفترق الخصمان و الموضوع لم يراوح مكانه، و يصبح السؤال عن أداء المثقف لا عن فكره، و يضحى نيل الإعجاب اولى من الاقناع فتكثر عبارات; ألجمه، أفحمه، أسكته… و هكذا يتلاشى دور المثقف و يصبح التنوير و الإصلاح في خبر كان.
و بالعودة الى حقيقة دور المثقف، يرى ميشيل فوكو ان التنوير ليس فقط تجربة تاريخية عرفتها الانسانية و لا واجبا فرديا للخروج من حالة القصور، و انما هو ايضا و بشكل اساسي عملية سياسية، و الثورة قبل كل شيء ثورة ضد الظلم، فرفض الاستبداد و السعي نحو الانتقال الديمقراطي هو المبدأ الذي يجب ان يتفق عليه الجميع مع الحرص على وضع الديمقراطية في اطارها المحدد فهي ليست حلا سحريا لكل المشاكل، بل آلية فقط، تمنع او تحد من الاستبداد و تمكن من تحقيق تمثيل اوسع، للشهب و رقابة على السلطات في اطار التداول السلمي. و بهذا فهي لا تضمن وصول الأصلح الى الحكم، كما ان صلاح الحاكم ليس ضمانا لصلاحية حلوله المقترحة ، كما ان صلاحيتها لن تسمن او تغني من جوع في حال تعطل آليات الأداء، و هذا ما يجب على المثقف أن يجعله في الحسبان ليتحمل مسؤولية المرافقة و النقد.
الديمقراطية كمبدأ ليست الا خطوة اولى في طريق تحقيق النهضة المنشودة، و لانجاحها على المثقفين ان يتخلوا اولا عن الإقصاء الهوياتي، و ان يحموا الثورة من الطائفية، و لكن عدم ابرازهم لبرامجهم الايديولوجية يجب ان يكون استراتيجية لا تكتيكا في حالة الثورة، الى ان تترسخ الديمقراطية كنظام.
و لا نرى امكانية لتحمل هاته المسؤولية و أدائها الا بالإيمان بالحوار أفقا للفكر…
خِتامًا ; الحوار أفقا للفكر
ان الحوار قبل ان يكون افقا للفكر هو أفق للوجود برمته، فهو الآلية السلمية الوحيدة التي تمكن من التدافع و من التعايش و هو فطرة بشرية أصيلة فجُلُّ ما ينتج الانسان من اشتقاقات لغوية تصب في قالب الحوار الذي هو علاقة أفقية و هي بلا شك تفوق بأضعاف ما يمارس به الانسان المخاطبة العمودية من طلب و أمر و نهي، فالإنسان مفطور على الحجاج و على الأخذ و الرد و لذلك كان الحوار سنة الأنبياء و سلاحهم، بل كان هو الأصل في دعوتهم حيث ان الله لم يجعل لهم مالا عظيما او سلطة قاهرة او غير ذلك من آليات فرض الرأي، بل شرفهم بفضيلة الحوار حين ارسلهم بلسان اقوامهم ليبينوا لهم. و يزداد الحوار شرفا بأعدائه، فكما ان الظالم لا يصرح لظلمه و يمارسه باسم العدل فكذلك الإقصائي لا يبدي معاداته للحوار بل يمارس اقصائيته و أحاديته باسم الحوار و تحت ظل الحوار، فالقيمة المطلقة ينتسب اليها أعداؤها.
لذلك لم يكن من العجب ان ينزل الحوار منزلة الحقيقة، فاذا كان الأصل في كلام المتكلم من جهة مضمونه هو الحقيقة فإن الأصل في قوله إياه هو الحوار، و اذا كان المتكلم الشاهد ملزما على قول الحقيقة و لا شيء غيرها فكذلك المخالف واجب عليه ان يمارس الحوار و الحوار فقط ، و ذلك لأن الحق واحد و لكن طرقه متعددة متجددة، و حيث ما تعددت السبل كانت الحاجة الى قيام حوار بين المتوسلين بها. و بما أن أساس كل رأي أدلته و كل دليل قائم من زاوية نظر صاحبه، كان تواصل الحوار كفيلا بتقليص الخلاف بين الأطراف باستفادة بعضهم من بعض، و ضامنا لتوسيع العقل و تعميق مداركه، بما لا يوسعه النظر و التفكر الذي لا حوار معه، كون الحوار نظر من زوايا عدة و هو بلا أدنى شك أصح من النظر الأحادي.
إن الحوار يحيي الروح العقلانية في المثقف من باب دفاعه عن رأيه و يجدد الروح الجماعية للأمة بكونه جامعا بين أطرافها المتحاورين، فإذا تحققت الاولى بانت سفسطائية أهل الأبراج العاجية، و بتحقق الأخرى يخفت بريق أهل الشذوذ من أتباع قاعدة » خالف تعرف » الذين يتخذون من السخرية من مجتمعاتهم مطية للشهرة.
و في الأخير نقول أن حوار النخب هو الضامن لتجديد الفكر و تجديد الفكر هو السبيل الوحيد لمواكبة حركة التاريخ…
و نختم بقول المتنبي :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
المراجع
المثقف و الثورة. عزمي بشارة
في الثورة و القابلية للثورة. عزمي بشارة
أطروحات حول النهضة المنشودة. عزمي بشارة
الجيش و السياسة. عزمي بشارة
مشكلة الثقافة. مالك بن نبي
الصراع الفكري في البلاد المستعمرة. مالك بن نبي
تجليات الثقافي في الربيع العربي. كمال عبد اللطيف
الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية. محمد مختار الشنقيطي
مسؤولية المثقف. علي شريعتي
سوسيولوجيا المثقفين، جيرارد لوكليرك
التنوير و الثورة، ميشيل فوكو
المثقفون و السلطة ، حوار بين ميشيل فوكو و جيل دولوز
حوارات من اجل المستقبل. طه عبد الرحمن
الحوار افقا للفكر. م. ابو زيد المقرئ الادريسي
L’opium des intellectuels, Raymond aron