الجدليّة التّاريخيّة في القرآن الكريم – عبد اللّه عيسى لحيلح – الجزء الثاني
بومحمد جمال الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
إننا نعيش في عصر بلغ فيه الإنسان من التّطور مبلغاً عظيما – أو هكذا يزعُم – ، وقطع أشواطا بعيدة في العلم؛ ما جعله يفهم ذاته حدّ التأليه، و يفهم الطبيعة إلى درجة التحكم في ظواهرها، و يفهم الوجود و فلسفته إلى درجة تمكنه من التبشير بنهاية التاريخ …
في سنة 1962 قال » أوبنهيمر » مخترع القنبلة الهيدروجينية : » إنّ الجنس البشري قد حقق تقدما تكنولوجيا و ماديا خلال الأربعين سنة الأخيرة أكثر مما حققه في الأربعين قرناً الماضية … » و لا شك أننا اليوم نعيش ذلك و نشاهده رأي العين يحدث بوتيرة أسرع، فنحن اليوم نقرأ عن رحلات سياحية إلى الفضاء، و عن ثورة في علم الجينات تجعلنا عمّا قريب قادرين على تصميم مورثاتنا كيف ما نشاء، و هواتفنا الذكية شاهدة على الثّورة الرقمية التي صيرت العالم قرية صغيرة، و الإحصائيات تخبرنا عن ارتفاع الدخل الفردي و تحسن الرعاية الصحية، و عن انتشار مظاهر الرفاهية.. و لكن .. هل جعلنا كل هذا أكثر سعادة ؟ هل عصرنا اليوم أكثر إنسانية ؟
إننا إذا تأملنا نوعا آخر من الإحصائيات لاحظنا أن هذا التطور يصاحبه ارتفاع رهيب في نسبة الأمراض النفسية و تعاطي المخدرات و إدمان الكحول و استهلاك الأفلام الإباحية كنوع من أنواع الإثارة الرخيصة التي يجنح إليها من يريد الهروب من واقعه، يقابل ذلك على صعيد آخر تزايد في إنتاج الأسلحة كمّا و نوعاً إلى درجة الدّمار الشامل …
إنّ ما ذكرناه يدفعنا إلى التساؤل هل نحن فعلا نسير نحو نهاية التاريخ بما تعنيه العبارة من كمال الوضع الإنساني ؟ و هل يمكن لحركة التاريخ أن تسير بطريقة خطية تقودها نحو الكمال ؟ أم هل كان « مكيافيلي » مُحقّاً حين قال : « لم يُكتب أبدا لما هو بشري أن يتوقف في نقطة ثابتة عندما يبلغ أقصى كمال ممكن ، و عندما يعجز عن الارتقاء أكثر ، فإنه يسقط .. و لنفس السبب فهو عندما يسقط في منتهى الفوضى و لا يتأتى له السقوط أكثر من ذلك فإنه يرتقي .. » ؟
على ضوء ما سبق ذكره سنواصل سيرنا مع كتاب » الجدلية التاريخية في القرآن الكريم « لنستكمل أركان النظرية عسانا نكون أكثر فهما للواقع بأخذ العبرة من السُّنن…
و سيكون المنطلق في هذا الجزء الثاني من المقال عبارة : » لا أستطيع التنفس !! .. لا أستطيع التنفس !! « ؛ هكذا قال أحدهم مستغيثا من كان جاثما فوق رقبته قبل أن تفارق روحه جسده في مشهد جعل الجماهير تنتفض ضد العنصرية و تدرك أنها لا تزال مجبرة – في القرن الواحد و العشرين – أن تتظاهر من أجل حفظ كرامة الإنسان …و ما يهمنا في هذه العبارة التي صارت شعاراً هو أنها تمتلك من الدلالات ما يجعلها مُعبرةً بحق عن حال الإنسان ذو البعد الواحد و هو يحتضر تحت ركام الحضارة التي جعلته يختنق بعدما كدّست عليه أشياءها، و مارست عليه كل أشكال الهيمنة التي سلبت منه مركزيته الوجودية و جعلته على الهامش تابعاً لعالم الأشياء ونكرة في فوضى الآلات و برامج الإنتاج . و ما الحرمان من الملكية أو العمل القسري إلا مظهرٌ من مظاهر هذا الاغتراب الذي يدفع الناس إلى التنازل و الانفصال و إلى السلبية السياسية و الاجتماعية، و هذا الفقد المعنوي الذي يعتري الإنسان يجعله مفتقراً إلى الدافع النفسي، و بالتالي فإن سعيه سيفقد التطلع إلى ما وراء الشروط الموضوعية ليحصر الإنسان حياته في الجانب البيولوجي فقط … و بالتالي فإن هذا التسلسل يجعل الاغتراب ينتقل من كونه حالة نفسية إلى سلوك سلبي ثم تصوّر و نمط تفكير، و مدار كل ذلك سلبُ الإنسان مركزه الجوهري في الحياة، و نحن إذا بحثنا عمّا يفيد هذا المعنى في القرآن الكريم فإننا سنجده في مصطلح الجاهلية … و قد وردت هذه الكلمة بلفظها مضافا إليه في أربعة مواضع ؛
– الأول: في قوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ﴾ (آل عمران:154)
– الثاني: في قوله عز من قائل: ﴿أَفَحُكْمَ الْجٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة:50)
– الثالث: في قوله جلّت عظمته: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ (الأحزاب:33)
– الأخير: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجٰهِلِيَّةِ﴾ (الفتح:26)
و بالنظر إلى هذا يمكننا القول إنّ الجاهلية ليست مرحلة زمنية أو وضعية تاريخية و لكنها تعبر عن حالة معرفية لها مستويات مختلفة كما سيتبيّنُ لاحقاً .
» … من هذا المنطلق يكون الحديث عن جاهلية هذا العصر إسقاطا و إنزالا حقيقياً لقيم القرآن و مفاهيمه على العصور المختلفة و الظروف المتباينة، و ما دون ذلك فهو تغييب للنص القرآني عن حياة الناس . »
بين الجاهلية و المدنية
كثيرا ما يتبادر إلى الأذهان أن الجاهلية نقيضٌ للمدنية و للتطور المادي، و لكن القرآن الكريم كثيرا ما يُحدّثنا عن أُمم يصِمُها بالجاهلية رغم أنها كانت على حظ وافر من مظاهر القوة و فنون العلم ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (غافر 83) ، ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ (فصلت 15) ؛
» إنّه الافتتان بالعلم و القوة ، كان قديماً و ما يزال حديثاً ، إنها نفس الكلمات يكررها كل عصر ، و في كل مرحلة يظنّ الإنسان أنّه قد حاز من العلم و القوة ما يكفيه اللجوء إلى الدّين و الأخلاق .. و لماذا الدّينُ و الأخلاق مادام الإنسان قادراً على أن يُفسّرَ كل شيء و أن يؤثر في كلِّ شيء ؟! »
و كذلك المدنية الحديثة سعت لطمس الميل الفطري للإنسان نحو الغيب، في محاولة لإيجاد بدائل موضوعية لمعالجة مظاهر الاستلاب ؛ فكان تكريسها لسيادة العقل مولداً للجنون و العبث، و قادها ما تزعمه من تحرير للإنسان إلى تكبيله بالشهوات ، و تحولت دعوى تسخير الطبيعة إلى تدميرها ؛ « و إنّه لمن الغريب و المأساوي أن الإنسان كلّما تطوّر عالمه الحضاري و التكنولوجي أقفرت إنسانيته ».
لكنّه لا يمكن القول بأي حال من الأحوال بعلاقة سببية بين التقدم المادي و الجاهلية، فهذه الأخيرة حالة مركبة من عوامل عديدة ينتج عن تفاعلها مستويات مترابطة من الجاهلية.
أول هذه المستويات ؛ المستوى المتعلق بالمثل الأعلى الذي يستبطنه الإنسان و هو ما نصطلح عليه بــــــــــجاهلية التّصور ؛ التي تكون نتاجاً لمظاهر متعددة من التبعية، أهمُّها تبعية الآباء؛ و ذلك حين يصيرون آيديولوجيا (سلفية) بعد انفصالهم عن الواقع و إيغالهم في الماضي أين يمثلون لحظة ميلاد مُبهر، و هذا التعلُّق الـمَرَضي بالسّلف يستدعي بالأساس إلغاء العقل و التّحليل، و فسح المجال أمام الذّاكرة و التّقليد؛ فيكون الحفظ – لا الفهم – معيارا للعلم الذي ينشدُ الانشداد نحو الماضي دون فهم للواقع و لا انطلاق منه . و هذا الانتماء يخالف المعادلة الطبيعية ؛ بأن ينطلق الانتماء إلى الشخص من خلال الانتماء إلى الفكرة ، إذ تنعكس لتصير : نؤمنُ بالفكرة لأن فلانا قالها ! و هذا ما يتطلب مستوى آخر من مستويات الجاهلية و هو جاهلية النّزوع أو الحميّة الجاهلية كتعويضٍ عن فقدان الحجة و الدليل؛ فالحميّة في الأصل اندفاعٌ حماسي و تشنجٌ عاطفي يُنتج موقفاً يغلبُ عليه التوتر و الاضطراب، و يغيب عنه التّبصُّر و التّفكيرُ و التدبُّرُ . يُضافُ إلى ذلك نوعٌ آخر من أنواع التّبعية هو تبعية الآلهة؛ و هنا ينبغي التنبيه إلى أن الأوثان لم تكن بتلك البساطة و السذاجة التي يصورها الوُّعاظُ، و لكنها كانت رمزاً لتصورات اجتماعية و سياسية و اقتصادية ؛ فكونك تعبد هذا الوثن أو ذاك يعني أنك تنتمي للجماعة التي تعبده، و تؤمن بما تؤمن به من قيم و أفكار، و لأن النّاس عموماً تعجز عن تمثل القيمة أو الفكرة مجردة فإنها تجسدها في وثن. و أكثر النّاس استفادة من الواقع الذي تكرسه الأوثان هم أكثر الناس دفاعا عنها، و قُل ذلك عن الآيديولوجيات المعاصرة … و باعتبار هذا كانت الأوثان في الماضي بمثابة ما نصطلح عليه اليوم بالأساطير المؤسِسة؛ التي تكون تثبيتا للواقع و تزييفاً للتاريخ و قتلا لروح المقاومة. و التصوّر الجاهلي بامتداده في مختلف مظاهر الحياة يخلقُ مظاهر جديدة من التبعية كالتبعية للمال ؛ إذ يظن الإنسان ذو النظرة القاصرة أن تجميع المال و تحصيله هو الهدف الطبيعي من حياة الإنسان و من أجله وفي سبيل الاستزادة منه ينبغي سنُّ القوانين و تنظيم الاجتماع السياسي، فكلُّ ما هو خارج عن الحياة المادية ينبغي تهميشه و تحجيمه و إبقاؤه في الركن المهمل، و بهذا تقول الأطروحات العلمانية ؛ فهي ليست وسيلة لتنظيم الحكم بقدر ما هي إعلان عن اختزال الغاية من الوجود في جانبه المادي .
و المال علاوة على كونه قوة مادية تُمكنُ من إذلال النّاس و استعبادهم فإنه كذلك قوة معنوية و ذلك بالإغراء الذي يحدثه بمظاهره في نفوس العامة فيُغويهم و يُضِّلهُم ؛ ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ۖ ﴾ (يونس :88)، ﴿ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ (نوح:21 ) فالعنف الرمزي مجسداً في وسائل الإعلام و ما تبيعه للنّاس من أوهام الحلم الأمريكي و حُمّى الاستهلاكية يخلُقُ نوعا جديدا من التبعية هو تبعية الترف ؛ إذ تمتلئ الذات باهتمامات و تطلعات بهيمية منحطة فتسعى للتخفف من كل وازع ديني أو أخلاقي أو رادع اجتماعي، و هذا ما يمثل المستوى الثالث من الجاهلية : جاهلية السّلوك، فإذا اتٌّبعت الشهوات تضخمت الأنا على حساب المجتمع، فيصبح من غير الممكن التفكير الاجتماعي الراقي والعمل الجماعي في ظل انتشار الفساد الأخلاقي، و يظهر بدل ذلك النّزوع نحو الفكر المادي ؛ » فالمادية الأخلاقية لا تقوم إلّا على أساس عبثية الحياة… » و هنا تظهر العلاقة الجدلية بين جاهلية التصور و جاهلية السّلوك، فكُلٌّ منهما تستلزم الأخرى و تقود إليها.
و آخر مستويات الجاهلية ؛ جاهلية الحُكم التي تحفظ جاهلية التصور و تزكي جاهلية النّزوع و تشجّعُ على جاهلية السّلوك و الأخلاق، و هي تُمثل سعياً لهيكلة الجاهلية و مأسستها .
و لأن جدلية التاريخ تقتضي أن يكون لبنية الوجود قوة نابذة للباطل، فإن السنن تستدعي أن تتجسد هذه القوة في حركة مقاومة للجاهلية و آلياتها الظالمة، و هذا الدور جسّده تاريخيا النّبي ويُجسدُهُ من يقوم مقامه…
ظهور النّبي
يقول عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه واصفا حال النّاس حين البعثة : » … بعثه و النّاس ضُلّالٌ في حَيرَة و خابِطون في فِتنَة، قد استهوتهم الأهواء و استزلتهم الكبرياء و استخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل … »
و حول ضرورة النبوة في حركة التاريخ البشري يقول الكاتب : » … و ليس في إمكان البشر العاديين المزودين بمناهج تبقى قاصرة و إن أبدت تفوقاً، و تظلُّ ناقصة و إن ادّعت كمالا، و محصورة و إن تظاهرت بالإحاطة و الشّمول… ليس في إمكان هؤلاء البشر أن يقودوا انقلاباً جذرياً على الجاهلية و أن يخوضوا تحرراً شاملا ضدها … أجل، قد يُوفَقون في قلب الأوضاع و تغيير السلطة الحاكمة التي كانت تستغلهم، لكن لا توجد الضمانات الكافية لكي لا يتحوّل الـمُحررون إلى جبابرة و متسلطين؛ و يصير المستضعفون مستكبرين ليتحرك ضدهم مستضعفون آخرون و هكذا دواليك ليبقى المجتمع الإنساني يدور في حلقة مفرغة إلّا من العبث والأحقاد.. »
و هو ما يشير إليه السيد باقر الصدر حين يؤكد أن المقاومة التي تحمل نفس الخلفية النفسية للمستغل لن تكون ثورة ضد الاستغلال و جذوره بقدر ما تكون ثورة ضد تجسيد معين له و تغييرا لمواقع الاستغلال لا اسئصالا له. و عليه يكون المحتوى الإيماني ضرورة في حركة التغيير، كونه يضمن تحرر الإنسان من أسر الشروط الموضوعية و الظروف المرحلية، و هذا ما يكون بتكريس مركزية الوحي معرفيا و الاستفادة من قراءة التاريخ تجريبيا.
« و قد سمّى الله سبحانه رسالته روحاً، لأنها تؤدي في الحياة نفس وظيفة الروح في الجسد الهامد، و سماها نوراً لأنها تكشف كل ظلام .. و الجاهلية كلها ظلمات … » ؛ ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ (المائدة: 15) . و تتحدد وظيفة النبوة لدى السيد باقر الصدر في كونها رهانا على الإنسان الفرد من خلال تزكيته على ثلاثة محاور :
- بين الإنسان و الإله : بتزكية رابطة العَبديّة و العبادة.
- بين الإنسان و الطبيعة : بتزكية رؤية الاستخلاف و التسخير.
- بين الإنسان و الإنسان: بتوجيه سننية الاختلاف و التعارف نحو التكامل و التعاون الإنساني.
و هذه المبادئ تجعلنا نميز السائر على النهج النبوي من أشباه المصلحين الذين يصف مالك بن نبي الشعبوية التي تعتريهم حين يقول: » و في مقابل ذلك مدّعي النبوة موقف أحد الانتهازيين الذين يتبعون التيّار الشعبي .. و يقفون تجاه عقائد العصر موقف المبالغ في التساهل إلى درجة التملق و الملاينة … » .
و لأن النبي بشر، فإن التجربة النبوية في الإصلاح تجربة واقعية يجدر بنا – بل يجب علينا – أن نتخذها مرجعا في حركة الإصلاح و معيارا لتقييم ما سبق من تجارب إصلاحية و ثورية، و أول ما يجب أن نقف عليه هنا هو كون النبوة رهانا على الفرد من خلال التزكية، فالنبي لا يستهدف في حركته العدوّ الماثل المشهود المجسد ميدانياً في شخص ظالم أو نظام مهيمن، بل يستهدف الجذور النفسية لهذه النماذج ؛ « فكثير من الحركات التغييرية راهنت على تغيير الواقع الخارجي أملا في تغيير الإنسان، لكن رهانها كان فاشلاً، إذ سُرعان ما أعاد الإنسان إفراز الواقع الذي تغيّر، لأنه يستبطنه في ذاته، و لأن حركة التغيير لم تتم بإرادته و وعيه و حريّته «
يقول الله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:25)؛ نفهم من هذا أنّ عنوان الرسالة النبوية هو التّوحيد و قوام دعوته أن هناك ربّاً واحداً ، هو الجدير بالعبادة، و هو الذي نتلقى منه الشرائع، و نتوجه إليه بالشعائر، و نرجو رحمته و نخاف عذابه… و لابدّ هنا أن نشير أن الزمن كفيل بتغيير حمولة المصطلح، و بالتالي يتغير تَمَثُّلُ النّاس لمعانيه، إذا أدركنا هذا أدركنا البعد بين مفهوم التوحيد الذي يتداوله البعض اليوم فيجعلونه تلاعباً بالألفاظ ينتج عنه جدلٌ كلامي تنبثق عنه مدارس و مذاهب تنسج الحواشي على المتون، و بين التوحيد الذي جاء به النّبي و فهمه أصحابه إذ تمثلوه رؤية كونية تُحرّضُهم على إحداث التغيير الجذري في الحياة برفض أي شكل من أشكال العبودية لغير الله تحت أي مسمى كانت، و مثل هذا المعنى أدركه المستكبرون أيضاً و رأوا فيه تهديدا لنفوذهم.
و لأن التوحيد هو ذو بعد أخروي كونه يرتبط بالإيمان و الغيب، مثَلَت القيامة و المعاد ركنا أساسيا في الخطاب النبوي، و ذلك لأهميتها التي تكمن فيما ينبني على إنكارها أو الإعتقاد بها من أفكار و قيم و سلوكات تتعدى الكائن الفرد إلى الكيان الاجتماعي، و مسألة اليوم الآخر لا تزعج الملأ المستكبرين لتعلقها بالغيب، و لكنهم يحاربونها لتعلقها بالواقع الاجتماعي، فهي تمثل طاقة محرضة على العمل و على الشعور بالمسؤولية الفردية، و تمنع المؤمن بها من أن يرهن موقفه في الحياة بموقف فلان أو جماعة أو طائفة مهما بلغت سطوتها .و هنا ندرك أن غاية النبوة و كل حركة إصلاحية حقيقية هي تحرير الإنسان، و طبيعي هنا ألّا يقبل المستكبر برسالة تنزع عنه قداسته و تجرده من أتباعه الذين يسيرون خلفه سير القطيع …! و لكن القرآن الكريم يخبرنا عن اعتراض المستضعفين كذلك ؛ و ذلك بعد أن تتشكل لديهم مشاعر حول الواقع تجعلهم يرونه حقيقة مطلقة لا يمكن تجاوزها، وبالتالي يتبرمون، و يضيقون ذرعا بمهمة التحرير التي ينشدها النّبي و يتطلع إليها و بما تحمله من أعباءٍ و تتطلبه من تضحيات، و يؤثرون بدل ذلك الاستكانة و الاستسلام ؛ ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿128﴾ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ (الأعراف:128-129)
و بالتالي لا يمكن القول – حسب المنظور الإسلامي للتاريخ – بتطابق الوضعية الطبقية و الموقف الفكري الأيديولوجي، فليس حتما على الذي لا يملك شيئاً من متاع الحياة أن يكون ثورياً متمرداً ، و ليس حتما كذلك على من أوتي سعة من المال و الرزق أن يكون مستكبراً رجعياً، و رغم ذلك يبقى المستضعفون هم الأكثر قابلية للاستجابة لدعوة النّبي بحكم كونهم أكبر المتضررين من الوضع القائم، و لكن رغم كونهم أول من يجتمع حول النّبي فإن النّبي يتجرد من الانحياز الطبقي، و يسمي هؤلاء الأتباع بالمؤمنين؛ أي انطلاقا من موقفهم الإيماني وليس انطلاقا من موقعهم الاجتماعي ؛ ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿111﴾ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿112﴾ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي ۖ لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿113﴾ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿114﴾ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (الشعراء: 111-115)
فالنبوة ليست موقعاً طبقياً رغم كونها على النقيض من مكانة أهل الترف الاجتماعية؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾(سبأ:34)
و النبي حين يرفض أن ينحشر في طبقة من طبقات هذا المجتمع الموبوء، وأن يعلن نفسه ضد طبقة أخرى يثبت أنه مرسل للناس كافة، و يسعى لتحرير الفطرة الإنسانية من شوائبها الجاهلية، و هذه الفطرة قد تشوهت عند كلا الفريقين .
و مرد ذلك أنه إذا تحركت الدعوة الدينية وسط المجتمع فإنها ستفرض على المجتمع انقساماً آخر يتجاوز ذلك الانقسام الذي فرضته الأوضاع المادية و الرؤية المنبثقة عنها، و هذا الانقسام الذي يتجاوز الطبقية نسميه الانقسام الإيماني أو الانقسام المبدئي التصوري ؛ لأنه مستمد من فكرة و رؤية غير مادية … و من ثمّ تنشأ لغة أخرى ذات دلالات جديدة ومحتوى فحوي جديد، و تبدأ في توصيف جديد لحركة المجتمع و أنساقه القيمية ومفرداته التي بها تُستوعب العلاقات القائمة، فتبدأ اللغة القديمة في الضمور و التلاشي، أو الامتلاء بدلالات جديدة هي من وحي الفكرة الدينية… و بالتالي يكون ظهور النّبي انتقالا من ثنائية : استكبار/استضعاف إلـــــــــى ثنائية: إيمان/كفر ؛ ﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ ۖ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ (سبأ:32)
إنّ النّبي يعرف المجتمع معرفة جيدة – و هذا شرط كل من يريد الإصلاح- و بالتالي يدرك العقبات التّي ستعترضه في سبيل تخليص النفوس من شوائب الجاهلية، ويدرك كذلك – بحكم أن النبوة رهان على الإنسان الفرد- الطبيعة الإنسانية؛ و أن النفس سرعان ما تختلط عليها قيمة الرأي و قيمتها عند الناس، إذ تعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها و احترامها… لهذا فإن النبي يقترح على الملأ المعترضين حوارا هادئا سمته الجدل بالحسنى، و موضوعيا ساعياً إلى الحقّ متجردا من الأحكام المسبقة تحت عنوان : »وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ » و لكن المستكبرين يقابلون ذلك برفض الحوار؛﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ (فصلت:26)
فيتهمون النّبي بالجنون و بالسحر و بالكهانة، و اتهامهم هذا لا يعبر عن قناعة شخصية خاضعة لقراءة موضوعية و استنتاج منطقي بقدر ما هي خاضعة للجو الانفعالي، فلو قاموا لله مثنى و فرادى ثمّ تفكروا لأقرّوا أنّ ما بصاحبهم من جنّة و لكنه صوت الجماهير حين يطغى على العقل، ويلجأ المستكبرون أيضاً إلى الإغراء بالمال و السلطان، و هذه عملية حاسمة كونها تمحص المصلح من المرتزق، ثمّ يتبعون كل ذلك بالتهديد باستعمال العنف…
و بعد هذا الاعتراض على النّبي في شخصه، و على أتباعه في مكانتهم، وعلى القرآن في حجيته و ما يتبع ذلك من سخرية و ازدراء، يدرك المستكبرون رسوخ هذا الدّين في نفوس معتنقيه و ثباته في وجه ما يكيدون، فيسعون إلى تجريد الدين من فعاليته الاجتماعية، و ذلك بأن يعرّفوه كشأن شخصي لا يجوز أن يكون مرجعا في تدبير الشؤون الاجتماعية ؛ ؛﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ (هود:87) ، فالأطروحة العلمانية ليست فتحاً جديداً للإنسانية، فنحن نجد جوهرها و جذورها في كل مجتمع جاهلي سابق، فباسم حرية التصرف في المال رفض قوم مدين الشريعة، و باسمها أيضا أباح قوم لوط ما أباحوا …
« عندما تتسع دائرة الدعوة النبوية وتفرض نفسها كحالة واقعية مستقطبة لعناصر من شتى الشرائح الاجتماعية وتصير محل نقاش وجدال وأخذ ورد باعتبارها مشروعا قد يصلح ليكون بديلا عن وضع قائم سائد، طالما اعتقد الناس أن لا بديل عنه.. حينها يبدأ الناس في اكتشاف سلبيات هذا الوضع وهشاشة أيديولوجيته التي يستند إليها وحينها تبدأ طائفة منهم تفكر في إمكانية التغيير وحتى من لا يفكر في ذلك فإن تعصبهم للوضع القائم يقل وتتلاشى عنه شيئاً فشيئاً أسطورة نهاية التاريخ. »
لذلك كان النّبي يحرص بعد انسداد أفق الحوار على التعايش السلمي حفاظا على الوضع الاجتماعي الهادئ الذي يسمح بامتداد هذه الفكرة، و هذا الحق الذي حاول أبو طالب أن يضمنه للنّبي حين قال : خلّوا بينه و بين النّاس، ومطلبٌ كهذا لم يكن ليزعج من كان صاحب حجة، بل كان ليراه موضوعيا كون الحركة الاجتماعية كفيلة من خلال جدليتها بطرح الأفكار الفاسدة …
و لكن منطق الاستكبار يأبى إلا أن يفرض أيديولوجيته على الجميع ؛ ؛﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ (ابراهيم:13) فإما أن تخضع للواقع الموبوء أو يتم استبعادك و إخراجك من المحيط الاجتماعي ، و هذا ديدن المستكبرين على مرّ العصور ؛ فبعد أن تتهم الدّول المستكبرة من لا يسير في فلكها بالتّخلّف و الرّجعية ثم الإرهاب، تبدأ في نقل العنف الرمزي و المعنوي إلى عنف مادّي فتفرض عقوبات دولية تبدأ بالاقتصاد و تنتهي بالحصار ثم التدخل العسكري تحت مسميات شتّى و مسوّغات عديدة…
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال:30) ، و هكذا يكون المكر الاستكباري سنّة أزلية في وجه الحركات التحررية …
الحركة النّبوية من الإخراج إلى دورة الحضارة
الإخراج
يقول باولو فرايري : « ولا نعرف في التاريخ كلّه أن العنف بدأ به المقهورون، إذ كيف يتصوّر أن يكونوا البائدين وهم في الحقيقة نتاج ممارسة العنف ضدهم!! »
يحاول المستكبرون أن يجعلوا من خوفهم الخاص خوفاً عاماً مشتركاً ومن تهديد مصالحهم الخاصة تهديداً لأمن الوطن وزعزعةً لاستقراره! وذلك بإنتاج خطاب يوهم الناس أنّ مصيرهم مرتبط بمصير الشعب والبلد، ويعززون ذلك بانتقاء شواهد دون أخرى، وكل هذا تبريرا لتحركهم ضد دعوة النبي وتسويغاً للقمع الذي يمارسونه؛ ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر:26)
و عادة ما يكون الإخراج مسبوقا بممارسات استفزازية قد تكون إغواءً واستدراجا كما قد تكون قمعاً وتضييقاً، الغرض منها دفع أهل الإصلاح إلى تصرف انفعالي غير مدروس يتخذه المستكبرون مبرراً كافياً ومقبولا للقضاء عليهم وتصفيتهم وما أشبه ذلك في عصرنا بتلك المسرحيات التي تسبق الانقلابات العسكرية!
و لأن المخالفة في الدين تثمر مخالفة في السلوك والأخلاق فسيجعل المستكبر من هذه المخالفة السّلوكية سببا آخر للنبذ والطرد والإخراج، وقد يتجلى هذا في أبسط الأمور فاللباس الشّرعي الذي ترتديه المسلمات وتعاني بسببه من الإقصاء في الكثير من بلاد الغرب لم يكن ليزعجهم في شكله لو كان صيحةً من صيحات الموضة، ولكن ما يزعجهم فيه هو دلالته التي توحي برؤية مخالِفة للكون تتجاوز الصورة المادية التي يخضعون إليها؛ فالانتباه إلى وجود هذا البديل السلوكي والأخلاقي الذي ينطلق من رؤية مغايرة قد يدفع أعضاء المجتمع إلى التساؤل والاستفهام وهذا التساؤل قد ينقلهم إلى المقارنة في التفكير وهذا التفكير قد يؤدي إلى نتائج قد لا يرضاها من يريد مجتمعا مستهلكا ماديا مدفوعا بالشهوات..
إنّ اللجوء إلى الإخراج قد يبدو في ظاهره قوة وجبروتا، ولكنّه في حقيقته ضعف ينبئُ عن عجز هذه القوى الاستكبارية أن تحصر هذه المعارضة وتحد تأثيرها بالحجّة وبالطرق السلمية، وبهذا يتبين لنا أن الأمم والدول تبقى مادامت تملك أفكارا وقيماً حتى إذا صارت مجرد ظاهرة عسكرية أو بوليسية كان ذلك مؤذنا بزوالها …
و حتى ندرك الصراع في مختلف مظاهره نورد هنا قولاً للدكتور عبد الوهاب المسيري نزعم أنه يساعدنا على فهم أسلحة الصراع و وسائل الهيمنة الجديدة شكلاً و القديمة كُنهاً : » قد اكتشف الغرب أن هيمنته بدأت تضعف فاستبدل بالمواجهة الإغواء، و بالحرب التفكيك… و نهاية التاريخ و ما بعد الحداثة يشتركان معا في أنهما يقومان على رفض أي احتمال للتجاوز أو الإصلاح، فهما يدعوان إلى السلبية، و هذه استراتيجية مثالية للغرب المتهاوي، حيث يطلب من الجميع مسح ذاكرتهم التاريخية و نسيان هويتهم لكي يصبح الكائن البشري إنساناً اقتصادياً أو جسمانياً، يبادل و يتاجر و يستمتع بشكل سلبي. فهو لا يسعى إلى الإصلاح أو التغيير أو التجاوز. »
الهجرة و الجهاد
يرتبط الجهاد بالإخراج في نصوص كثيرة من القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿39﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:39-40)
وذلك أنّ الفضاء الاجتماعي الذي أُخرج منه المؤمنون أمر ضروري بالنسبة لكل حركة رسالية، فالجهاد ليس محاولةً لفرض تصور –كما يصوّره البعض- وإنما لاستعادة المجال الاجتماعي.
والقرآن الكريم يمزج بين الإخراج والهجرة والجهاد لأنها حلقات سلسلة تفضي كل واحد إلى التي تليها؛ ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ َلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾
(آل عمران:195)
إنّ الهجرة في دلالتها أوسع من انتقال من مكان لآخر كرد فعل على العنف الذي مورس ضد الجماعة، إنّ الهجرة حالة إيمانية تجعل الإنسان يتحرر من كل ما يشده نحو الأرض من شهوات ومصالح ومال وجاه وما يتبع ذلك كله من شبكة علاقات .وهذه السنة المطردة في كل ديانة وحضارة على مر العصور جعلت المؤرخ البريطاني آرنولد تويني يستنبطها كقانون تاريخي ونظرية تحت مسمى « أصل الهجرة والرجعة » فالهجرة سواء كانت هجرة قوم أو هجرة فكرة هي حتمية ميدانية تبدأ بقطع علاقة المجتمع بالأرض لينفك بذلك عن الركود وينتهي بدخول حركة التاريخ.
﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:251)، إنّ التدافع بين الأمم هو بمثابة جهاز مناعة مركوز في فطرة الكون يجعله ينبذ الفساد إذا استشرى وينشد الصلاح والفلاح، وهذه هي الجدلية التي يسير عليها التاريخ؛ فقد يغلب الطغاة والظالمون حين يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالا ماديا، لكن سنة التاريخ تأبى أن يكون ذلك أزلياً.
وهذا الصراع القائم على مرِّ التاريخ لابدّ له من حكم يفصل في النّزاع حتى لا يكون الصِّراعُ صِراع فناء، وحتى لا تكون العاقبة ظلماً وجوراً لابدّ أن يكون هذا الحكم وسطا وعدلا، وهذه المسؤولية يضعها القرآن على عاتق الأمة المسلمة إذ يقول: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ﴾ (البقرة:143)، فالشهود الحضاري لابدّ أن تتحمّله أمة وسط، و قد جعل الله شرط الخيرية للأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و الإيمان بالله ؛
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ (آل عمران:110)، إنّ التصدي لمهمة الشهود الحضاري يستوجب على الأمة أن تنخرط في التاريخ وأن لا تبقى في هامشه، وذلك يوجب عليها أن تجاهد أهل الظلم لتحقق العدل، فالظلم المسلح يحاربه الخير المسلح لا الشعارات الرنانة، وفي القرآن الكريم حثٌ للمؤمنين وتحريض على خوض الجهاد فهو بالنسبة للإسلام سنام الإيمان، وهذا الصراع والجهاد ضد الاستكبار والكفر لاشك أنه سيكون عصيباً، عصيباً لدرجة أن يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟! ألا إنّ نصر الله قريب…
أجل، لقد جعل الله النصر سنة حتمية لجنوده، هذه السُّنة التي قد يستبطئها الناس إذ لا تسعها أعمارهم، وما عمر الإنسان في حياة الكون إلا كحلقة في فلاة… ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴿172﴾وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصّافات:171-173).
لكن العجيب في الأمر أن هذا الجهاد العسير يسمّيه الإسلام جهاداً أصغر في مقابل جهاد النّفس الذي يخصُّ الحالة النفسية والشعورية بعد النصر، والذي سيكون محوريا في تحديد وجهة الأمة المنتصرة بين الرشاد والتيه؛ فالاستخلاف -كما بيّن القرآن الكريم- هو المبتدأ وليس المنتهى، وهو قبل ذلك امتحان للمؤمنين يستخلفهم الله عز وجل ويمكّن لهم في الأرض لينظر كيف يعملون..
النصر بين الرشاد و التيه
إنّ التمكين في الأرض يجعل للأمة المنتصرة واقعا مغايراً لسابقه، مفتوحا على رغد العيش وداعياً إلى التنعم والترف، وهذا الواقع قد يدفع بعض المجاهدين أو المهاجرين أو الثوار إلى التخفف والتملُّص من بعض المبادئ ورقابتها الصّارمة، وفي هذا السياق يُفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) [متفق عليه]
فالنصر لا ينفتح على مجال واحد مضمون العواقب بل ينفتح على خطين:
- خط الفتنة والتيه والثورة المضادة.
- ويقابله خط الرشاد الذي يعني الوفاء للرسالة.
التيه
يقول مالك بن نبي: « فالثورة قد تتغير إلى ( لا ثورة ) بل قد تصبح ( ضد الثورة ) بطريقة واضحة خفية، و الأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أنّ مجتمعاً ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح ( ما ضد الثورة ) طبقاً لمبدأ التناقض تناقضاً مستمراً، حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات تتبعاً لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب تتبع حركتها و رقابتها بعد ذلك « .
تبدأ الثورة المضادة حين تسعى مجموعة من الناس لم تتطهر أنفسها من أنموذجية المستكبر إلى إثارة حالات وقيم جاهلية تحت مبررات شتّى، وذلك في سبيل الإقبال على الدنيا بذهنية استهلاكية تتخفف من كلّ ضبط أخلاقي أو التزام مبدئي.
وحتى تثبت الثورة المضادة كيانها في الواقع الاجتماعي فإنها تسعى إلى نبذ كل مالا يجانسها فكرا وتصورا فتبدأ بتهميش المجاهدين ليجدوا أنفسهم على هامش الحركة الاجتماعية، مخيرين بين الانسحاب والعافية وبين الطرد والقتل والإقامة الجبرية تصديقا لأسطورة: « إن الثورة تأكل أبناءها »
وبما أن سنن التاريخ أزلية فإن استصحاب الحاضر لفهم الماضي لا يختلف عن استحضار الماضي لإدراك الحاضر، فإجهاض الثورة يبدو جليّاً حين تبقى أيديولوجية عدوّ الثورة هي المهيمنة وهي المسيطرة ومثال ذلك ما يقوله الدكتور محمد العربي زبيري –وآخرون كثر- عن الثورة الجزائرية:
« لقد كان الجنرال ديغول يدرك أنّ الثورة إنّما تُضرب من الدّاخل، و عليه أشرف بنفسه على تطبيق عملية استراتيجية أساسها الإنسان المتشبع بالفكر الاستعماري و المتواجد في كل الميادين الحيوية، و هدفها جعل النظام الجزائري الفتيّ يركن إلى الحلول السهلة و يرتاح إلى الاتكالية »
وهكذا وجد المواطن الجزائري نفسه يعيش نمطاً حياتياً غربياً فُرض عليه، جعله يعيش غريباً في الحرية كما عاش غريبا في الاستعمار… إن هذا التيه المتمثل في إعادة إنتاج الجاهلية تصوُّراً وقيما وسلوكا هو في حقيقته قطع بين مساري الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر وهو ما يجعل النّصر غير مكتمل،فـقِوى الاستكبار قد ترضى أحيانا أن تبوء بما يشبه الهزيمة العسكرية الميدانية إذا كان ذلك يضمن لها البقاء بين المستضعفين كأيديولوجية مهيمنة .
إنّ الثورة المضادة تعبر عن التيه والضلال، كحال قوم موسى إذ أضلّهم السّامري فعبدوا العجل، وهذا الضلال يؤدي إلى الذلة ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ (الأعراف:152)
إن هذا الوعد الرباني بكون الانتكاسة موجبة للذلّة في الحياة الدنيا ما كان للعصور السالفة أن تفهمه وتشاهده رأي العين كما نفهمه ونشاهده في هذا العصر ونحن نرى كيف صارت الدول المتحررة من الاستعمار مسرحا لحروب أهلية وطائفية كانت نتيجة تغلغل أيديولوجية المستعمر بحمولتها الجاهلية وتفكيكها لشبكة العلاقات الاجتماعية، ويبدأ هذا حين تجنح قوى الثورة المضادة إلى العامة فتقوم بإغوائهم بمغازلة العصبية القبلية قديما، وببهرجة النمط الغربي في الحياة حديثا، أين تجد الشهوات ضالتها، في مقابل طريق الجهاد الأكبر الشاق الذي تستثقله النّفوس… لذلك ليس غريبا أن نلحظ هذا الافتتان من طرف الأغلبية وانحيازها إلى الطريق اليسير فتصير سلاحا في يد الفتنة ولنا أن نتساءل كيف ساهمت الغوغاء في اغتيال الصحابة الرّاشدين واحدا بعد واحد ..!
لكن هذا النّكوص سرعان ما يخلق تباينا جديدًا في المجتمع، وهنا تعود العقيدة لتنتفض على هذا الواقع الموبوء، فتكون محاولة الثورة على الثورة المضادة، ولأنها حربٌ بين أبناء المجتمع الواحد فإنها تأخذ اسم الحرب الأهلية التي ستمثل مخاضا يخوضه المجتمع في سبيل الانتقال من التيه إلى الرشاد.
الرشاد
إنّ الحفاظ على النّصر لابدّ أن يمرَ عبر إعادة ترتيب المجتمع والذهنيات وتفعيل شبكة العلاقات الاجتماعية على ضوء الفكرة الدينية.
وترسيخ ذلك الهدى والرشاد في مؤسسات وتفعيل آلياتها لاشكّ أن عمر الرسول (المصلح) يقصُرُ دونه، ولذلك فإن التصدي لهذه المهمة سيكون على عاتق الرعيل الأول الذين أدركوا الفكرة وأشربوها روحا وتصوراً، وجاهدوا في سبيلها وهاجروا وأخرِجوا، وهو ما جعل لهم تكوينا ميدانيا يخوّلهم هذا الاجتباء لقيادة المجتمع، وهو ما يعرف في الأدبيّات المعاصرة بالشرعية الثورية، وهذا الإلزام الإيماني والالتزام الإنساني يُعتبر في مرحلته ضرورة تاريخية لمجتمع في طور النشأة، وأمة بصدد الخروج للنّاس.. وستكون هذه العملية مرتبطة بمدى وعي الناس الجمعي ومدى قابليتهم لإسقاط وتمثل قيم الرسالة في الواقع وهذه الجدلية ستجعل المجتمع ينخرط في الحضارة بمراحلها الثلاث:
أ. مرحلة الروح
وهي المرحلة التي تخضع فيها غرائز الفرد والمجتمع إلى تهذيب وتوجيه نحو مثل عليا مشتركة تكون منبثقة من الفكرة الرسالية المنتصرة، وتمتاز هذه المرحلة -كما يقول ابن خلدون- بوفور العصبية التي بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يُجتمع عليه.
ب. مرحلة العقل
وتبدأ حين ينغمس الجيل الثاني من أهل العصبية في الترف والنعيم والأخذ بمذاهب الملك في المباني والملابس وتوابع ذلك، فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية، ويقابل ذلك انسحاب المبادئ من الحياة الاجتماعية لتحلّ محلها المصالح والمنافع، وفي هذه المرحلة –يقول مالك بن نبي- يستقر التوتر الروحي ويميل نحو الأفول وهنا تشرع الغرائز في التحرر من قيودها فيكفُّ الفرد عن أداء الواجب ويشرع في المطالبة بالحق… فتتحول الشرعية الثورية إلى شرعية تاريخية تُطلب بها الدنيا وذلك بتحوُّلِ خطابها من خطاب تغيير ينشد مثالية الرسالة وإصلاح إلى خطاب تبرير للواقع وانحرافاته.
ويمكننا أن نضيف أنّ مرحلة العقل في ذاتها صراع بين عقلين: العقل الفلسفي الإنساني الذي يصوغ الرؤية الكلية ويوجه طاقات المجتمع، والعقل الجزئي أو المادي –التقني- الذي يكون مدار عمله التراب –بتعبير مالك بن نبي- ومهمته تطوير عالم الأشياء؛ وهو ما يصنع التطور في شقه المادي، وتبدأ مرحلة العقل بخضوع العقل المادي للعقل الإنساني الذي مازال قادرا على إنتاج تصور كلي للمجتمع وتوجيه العقل التقني إلى الإنتاج بما يضمن البقاء لا التكديس… حتى إذا صار هذا العقل عاجزاً عن العمل شرع هو نفسه في الخضوع لعالم الأشياء، بإنتاج نظريات وتصورات تخدم النزوع المادي الاستهلاكي، فتبدأ الحضارة بتكديس منتجاتها، وهنا يصير الظاهر مُباينا للجوهر فالعالم المادي ببريقه يجعل المجتمع يظهر بثوب التقدم والازدهار، ولكن قلةً من أولي النّظر من يدركون أن هذا الظاهر يخفي تبعية الأفكار للأشياء والقيم للمادة والإنسان للآلة، ومن هنا نفهم أن القوة المادية –في المنظور القرآني- ليست دلالة على العافية الحضارية بل قد تكون بداية الهلاك إذا حملت في طياتها اختلالا في التصور وحجبا للرؤية التاريخية الحقيقية إذ يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ (غافر:21)
جـــ. مرحلة الغريزة
وتبدأ حين يبلغ المجتمع حدّاً كبيراً من التّحرر من إلزامات الفكرة الموجدة له، وحين تفقد الفكرة الدينية وظيفتها الاجتماعية، وذلك بعدما خضعت للتأويل والتفسير الذي يخالف روحها ومبادئها ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ..﴾ (آل عمران:07)، والزيغ هنا مصطلح قرآني يدلُّ على خطاب التبرير الذي يهيمن على هذه المرحلة.
« وبهذا تكون النهاية عكس البداية، ففي المرحلة الأولى كان الأشخاص يدورون في تلك الفكرة وفي المرحلة الأخيرة صارت الفكرة تدور في فلك الأشخاص. »
و إلى هذا يشير مالك بن نبي إذ يقول : » … و لكن أوضاع القيم تنقلب في عصور الانحطاط الاجتماعي، إذ هو لا يقوى على البقاء بمقوّمات الفن و العلم و العقل فحسب، لأن الروح، و الروح وحده هو الذي يتيح للإنسانية أن تنهض و تتقدم، فحيثما فُقد الرّوح سقطت الحضارة و انحطّت… »
الهلاك و بداية دورة تاريخية جديدة
« ولقد تحين النهاية والمجتمع متّخم بالأشخاص والأفكار والأشياء.. » إنما لا توجد الفكرة الناضجة لها لأنها في تلك الفكرة الدينية التي خانها المجتمع وتخلّى عنها، وهكذا يكون هلاك الأمة متمثلاً في عجز شبكة العلاقات الاجتماعية عن تحريض قدر معين من القوة والطاقة تجعل المجتمع يندفع نحو الأمام في حركة التاريخ.
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴿44﴾ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (الأنعام:44-45)
هكذا قد يكون الهلاك في أوج القوة المادية، إذ يصبح المترفون مستغرقين في كماليات العيش، وهم بالإضافة إلى استغراقهم يقومون باستنزاف كافة طاقات المجتمع، ولن يتأتى هذا الانقلاب في الأجواء الاجتماعية إلا بتغيير الذهنيات وتحريفها وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالاستخفاف، فكما أنّ الشعوب تخلق قيادتها فإنّ القيادات كذلك تسعى لاستخفاف الشعوب وتشكيلها على صورتها.
ويقدّم الرسول صلى الله عليه وسلّم أعراضا رئيسة للأمة التي تهلك، و هي : » إذا رأيت شحّاً مطاعاً، وهوى متبعاً، و دنيا مؤثرة، و إعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، و دعك من أمر العامة » –رواه الترمذي-. لأنهم لا ينفع فيهم وعظ، ولا إرشاد، فهم قد شرعوا في الوفاة كما يشرع الهالك في الغرغرة…
و بعد الهلاك يكون التقطيع في الأرض، و يكون الاستبدال، و يكون الإنشاء لقوم آخرين … لتكون نهاية دورة حضارية هي البداية لدورة تاريخية أخرى… والإنسان الخارج من دورة حضارية بفعل الهلاك يختلف اختلافا جذريا عن إنسان ما قبل الدورة الذي يملك قابلية الانخراط في حركة التاريخ، فلا يملك هذا الإنسان إلا أن يعيش ويجتمع حول اهتمامات غريزية تعيد في جدليتها تقسيم المجتمع إلى قطبين، قطب يملك ويكتنز، وآخر لا يملك ولا يكتنز…
خاتمة
كتب الأستاذ عبد الله عيسى لحيلح في خاتمة الكتاب » هانحن في خاتمة بحث لا نعتقد أنّ له خاتمة لأنّ كلّ فصل فيه بل كلّ مبحث يصلح كي يكون دراسة قائمة بذاتها ذات مباحث وفصول. »
وكذلك نقول في خاتمة هذا المقال الذي نأمل أن يكون نقطة انطلاق للوعي بضرورة إنشاء فلسفة تاريخ أصيلة، إلا أنّ هذا الدّرب الطويل لابد له أن يبدأ بتحرير فهمنا للواقع وإشكالياته من التبعية الإدراكية، وبما أنّ المؤرخ هو ثمرة عصره ثقافيا كونه يُراكم بموسوعيته مختلف مظاهر الوجود فإن المنطلق سيكون بتحرير أدوات المؤرخ التي ينظر بها -من علوم إنسانية واجتماعية- من هيمنة المركزية الغربية ويكون ذلك بتجاوزها تجاوزا استيعابيا نقديا لا تجاوز تحقير وتسفيه، وهذا العمل الجبّار تتصدى له النُّخب الرّسالية التي تُحس بآلام الأمة وتتشوّف إلى آمالها.. .
المراجع
الجدلية التاريخية في القرآن الكريم . للدكتور عبد الله عيسى لحيلح .
و أصل الكتاب رسالة قدمت إلى جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسنطينة، و حصل بها الباحث على درجة الدكتوراه بتاريخ جويلية 2005 .
مصادر ثانوية :
-الإسلام بين الشرق و الغرب. علي عزت بيجوفيتش، ترجمة: محمد يوسف عدس
– بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية. ماكس هوركهايمر، ترجمة: محمد علي اليوسفي
– العلمانية و الحداثة و العولمة. عبد الوهاب المسيري ، تحرير : سوزان حرفي